التحول الجنسي بين القبول والرفض في المجتمعات التقليدية

صحيفة الهدف

عبد المنعم مختار
#ملف_الهدف_الثقافي
في عالم مضطرب كهذا الذي نعيش فيه، لم يعد سؤال الهوية الجنسية مجرد شأن فردي أو نزوة شخصية، بل أضحى مدخلا لكشف أزمة أعمق تعيشها المجتمعات، لا سيما تلك التي ما تزال أسيرة خطاب محافظ يراوح بين النص الديني والتقاليد الاجتماعية، ويغفل أن الإنسان كائن أعقد من أن يُختزل في ثنائية ذكر وأنثى؛ فهل نحن ما تفرضه علينا الطبيعة البيولوجية، أم ما نختاره؛ أو نشعر به في أعماق ذواتنا؟
التحول الجنسي قبل أن يكون فعلاً جراحيًا، هو لحظة تمرد على نظام اجتماعي متكلس، يرى في الهوية قدرًا محتومًا لا يقبل المراجعة، يعيش الفرد الذي يقرر التحول حالة قاسية من “اغتراب الجسد”، حيث لا ينسجم داخله مع خارجه، فيتولد صراع مرير بين الذات والبيئة، وفي مجتمعات كالسودان يتضاعف هذا الصراع، فالمتحول لا يواجه جسده فقط، بل يواجه سلطة الدين، وسطوة العرف، وقسوة القانون.
والأمثلة التي تحكي الواقع كثيرة، مثال؛ شاب سوداني وُلد بجسد أنثوي، لكنه رفض منذ طفولته الأدوار الأنثوية، ووجد في ذاته ميولا ذكورية كاملة؛ خاض رحلة طويلة من الألم النفسي، أجرى عملية التحول في الخارج وعاد إلى وطنه، فإذا به يواجه باللا ترحيب واللا تسامح، وكان الرفض وعاش منبوذًا. القصة ليست استثناءً بل نموذجًا يعكس مأساة عشرات يعيشون في صمت، خوفًا من المجتمع، ومن أجهزة الدولة التي لا تعترف بوجودهم أصلا. وتبقى الأسئلة الصعبة؛ كيف يتعامل المجتمع السوداني المحافظ بطبعه مع هذه الحالات قبل وبعد العملية؟
قبل التحول يعيش الفرد عزلة وتوبيخًا، وربما عقابًا جسديًا في محاولة “لإصلاحه” بالقوة؛ وبعد التحول يتضاعف الرفض، إذ يُنظر إليه كوصمة تهدد الشرف العائلي والقبول الاجتماعي. الزواج في هذه الحالة يكاد يكون من المحرمات، إذ لا تتصور الأسر المحافظة إدخال “متحول” في نسيجها الاجتماعي.
ومن المهم هنا التمييز بوضوح بين الشذوذ الجنسي؛ أي الممارسة المثلية أو الانحراف الجنسي؛ وهو مرفوض دينيًا واجتماعيًا، وبين حالات الخنثى أو الاضطراب البيولوجي والنفسي، حيث يولد الإنسان بعضو جنسي مزدوج أو غير مكتمل، أو بهرمونات لا تتوافق مع تكوينه الجسدي والنفسي. في مثل هذه الحالات يصبح التحول الطبي أو الجراحي محاولة للتوفيق بين الجسد والهوية الداخلية، لا تمردًا على “الفطرة”.
ومع ذلك، ليست كل الحالات تمر بدافع “التمرد”. أحيانًا يكون الدافع بيولوجيًا خالصًا كما في النساء اللواتي ترتفع لديهن هرمونات التستوستيرون، فيظهرن أقرب إلى الذكور، أو الرجال الذين يحملون نسبًا عالية من الهرمونات الأنثوية. هذه الحالات تكشف حقيقة المسألة؛ وأنها ليست تحديًا للفطرة، بل مأزقًا بيولوجيًا يفرض نفسه. غير أن الانتقال إلى مجتمع جديد كما يفعل بعض المتحولين؛ يمنح فرصة لإعادة صياغة الهوية الاجتماعية، لكنه لا يلغي القلق الوجودي؛ كيف يوفق الفرد بين الصدق مع ذاته والخوف من انكشاف سرّه؟
هذه الجدلية ليست سودانية خالصة، بل عالمية. أزمة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف أو العداءة الجنوب إفريقية كاستر سيمينيا تمثل مثالا صارخًا؛ ففي ساحة الرياضة، حيث يُفترض أن الجسد هو معيار العدالة، نجد الجدل حول الجنس والهوية يحتدم ليكشف عن عجز المنظومة القانونية والطبية معًا عن التعامل مع التنوع الإنساني، وعلى المستوى العربي تبرز قصة الممثلة المصرية المتحولة حنان الطويل التي كانت تُعرف قبل تحولها باسم “طارق”. بدأت مشوارها الفني أواخر التسعينيات واشتهرت بأدوارها في “الناظر” و”عسكر في المعسكر” و”عبود على الحدود”، لتصبح أول ممثلة متحولة جنسيًا في مصر والعالم العربي. عاشت حياة مليئة بالمعاناة من رفض المجتمع لها، وتوفيت عام 2004 عن عمر لم يتجاوز 38 عامًا، في ظروف غامضة قيل أنها انتحار بعد ضغوط نفسية واجتماعية قاسية، قصتها تكشف أن الفن، رغم انفتاحه، لم يكن ملاذًا آمنًا من قسوة الأعراف.
المجتمع السوداني كغيره من مجتمعات الإسلام التقليدي، يستند إلى تفسير فقهي يرفض أي تغيير في “خلق الله”، لكن السؤال الأعمق؛ هل يمكن أن نبني مجتمعاتنا على قاعدة “النص وحده” ونتجاهل المعاناة الإنسانية؟ إن الأعراف هنا أكثر قسوة من النص ذاته؛ فهي لا تكتفي برفض المتحول، بل تُخرجه من دوائر الانتماء، وكأن وجوده ذاته تهديد لبنية المجتمع، النتيجة عزلة، اكتئاب، وانتحار محتمل.. وكلها ثمن لإنكار واقع لا يريد المجتمع الاعتراف به.
يعد التحول الجنسي في بعض السياقات ليس ترفًا ولا شذوذًا، بل محاولة لإنقاذ الذات من الانهيار.. الأطباء النفسيون يرونه في حالات محددة العلاج الوحيد الممكن؛ لكن السلطة الاجتماعية والسياسية في السودان وغيره تتمسك باختزال المسألة في خطاب أخلاقي ضيق، يتجاهل بعدها الإنساني.
التحليل الأعمق يكشف أن أزمة التحول الجنسي ليست أزمة أفراد فقط، بل أزمة مجتمع يرفض مواجهة تناقضاته: يريد أن يعيش في عالم معولم منفتح لكنه يتمسك بخطاب محلي مغلق. يريد أن يستفيد من العلوم الحديثة لكنه يخشى نتائجها. يريد أن يحمي “قيمه” لكنه ينسى أن القيمة الأسمى هي الإنسان ذاته.
نهاية المطاف يبقى السؤال؛ هل نملك الشجاعة لنكسر جدار الصمت ونعترف أن الهويات المتحولة، مهما كانت قليلة، هي جزء من واقعنا الإنساني؟ أم سنظل ندفن رؤوسنا في رمال الإنكار، حتى يتسع الشرخ بين الفرد والمجتمع، بين الداخل والخارج، بين النص والواقع؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.