
جمال غلاب
#ملف_الهدف_الثقافي
هذه حكاية رجل عاش أزمنة كثيرة وجاب كل شبر في الرقعة المكانية التي يطلق عليها سكانها اسم أرض الوطن، تلك المساحة التي يتغنى بها الناس أحيانًا، ويصبون عليها اللعنات في مرات لا تحصى، و أحيانًا يصمتون وعيونهم تترقرق بالدموع وفي نيتهم قول أو فعل شيء ما من أجل هذا الوطن، وأغلب الوقت يهمهمون بعبارات مبهمة لا يأبه ناطقها و لا سامعها بالمعنى الكامن طيها. يتجول الرجل وهو يحمل بقجة، كانت كبيرة الحجم نوعًا ما، وبمرور الأيام والليالي تحولت إلى صرة متوسطة الحجم نوعًا ما. وفي كل مكان يحل فيه، يبدي الناس استغرابهم من تمسكه المستميت بالصرة.. يبدو “كالمستجيش ضراوة و مصادمة” إذا حاول بعض الأشقياء ممازحته بمحاولة انتزاعها منه، بعضهم يسأله عن المحتويات فيفضل ألا يقول شيئًا، وإذا ما وجد في نفسه رغبة في التخفيف من كثافة وعوارة الفضول المستمر إزاء الصرة، يقول: إنها أغراضي، ثم يروي للحاضرين حكاية أو حكايتين فيتفضلون عليه ببعض المال، أو بقليل من العصيدة و الكسرة والملاح أو حتى البليلة، يقيم بها أوده ثم ينهض لمواصلة رحلته عبر الدروب. يغني أحيانًا، صوته لا بأس به، وفي مرات كثيرة يترك الجميع أشغالهم وشجاراتهم ومصالحهم العابرة لينصتوا إلى الصوت الذي يبعث فيهم حنينًا إلى لحظات غامضة، لا يكاد أحدهم يستبين هل عرف لها مثيلا، أم هو فقط يتخيل وجودها، ويطبق الناس أجفانهم وهم يتمايلون ويتمنون في قرارة أنفسهم ألا تنقطع الأغنية، وأن يستمر الصوت أبد الدهر. الجميع في تلك الرقعة يعرف أغنية: “مالك علي يا ليل”، و أيضًا يسمونها “يا زهرة وين ألقاك”!
أغلب الناس يفضلون ترديد مقاطعها وهم وحيدين، وكأن بعض الأغنيات لا يصح الترنم بها إلا في حالة من العزلة الشاملة، لأنها تتكفل بجلب عالم يستعصي حضوره إلا على موجة لحنية لا تكف عن السفر عبر الأزمان.
نسيت أن أخبركم أن هؤلاء الناس قد مات عدد كبير منهم أو تشردوا بسبب حرب لعينة نشبت في بلدهم لأجل أسباب واهية وغير مقنعة لكثير منهم، فمن كان محظوظًا منهم إستطاع أن يهرب إلى أحد الدول المجاورة، أو حتى البعيدة حيث يصير بمنأى عن القصف والتدوين و”الفجخ والفتك والمتك والجغم”، أما الأقل حظًا فيعيش أغلبهم في مراكز الإيواء المنتشرة في مدن، بعضها يشهد معارك ضارية وبعضها آمن نسبيًا، كل شيء نسبي والناس دومًا في حالة استعداد، حيث بقجهم جاهزة، يعيشون في حالة من الترقب الواجف المستمر من اجتياح مفاجيء قد ينهي وجودهم على سطح الأرض، أو يقودهم إلى نزوح ولجوء لا يحبذونه، و لأن الخيارات بين إيديهم باتت شحيحة، إن لم تكن معدومة، فقد ارتضوا لأنفسهم العيش وسط الخطوب المدلهمة بكثير من الخوف وقليل من الأمل.
صاحبنا بعد أن طاف البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وحكى كل الحكايات الممكنة والمستحيلة صادفه بعض الجنود اللصوص عند ضفة النهر، أرادوا أن يأخذوا منه الصرة عنوة، فما كان منه إلا أن رمى بنفسه ومعه صرته في النهر العظيم وما هي إلا لحظات حتى اختفى نهائيًا.
ومن جوف النهر، وقبل مغيب الشمس يتصاعد الغناء يوميًا، يسمعه الغاشي والماشي والقاصي والداني، فيطرق برأسه نحو الأرض. أما الجنود فكانوا حينها ينكسون الأسلحة ويكفون عن القصف والتدوين.
تقول الأغنية:
مالك علي يا ليل.. دايمًا مكاجرني
شغال تلاوز لي
باليني بي أطياف.. المن عيونا بخاف
داسيها في ريدي.. داسيهو هذا الريد
لا من سمع أو شاف
رضيان بضربة حظ. تجمعني بالنوار
لا كلفة لا إلحاف
يا زهرة وين ألقاك.. يا درة وسط إكليل
هام في هواك الجيل.. أجيال وراها أجيال
أرتال وفي ترتيل.. طالبين حواك وضراك
شايلين هواك إنجيل..
ألواح تلوح بالنور، بي محكم التنزيل
صادحين بأجمل صوت.. سايرين نهارم وليل
للقدرو عالي جليل، على راحلة لا ترتاح
ما بين غابة وقوز، ما بين صحرا ونيل
دربا سمح و عديل
لكن كمان يا زهرة.. ضرب السلاح يا زهرة
تاح تاح تراح يازهرة
المرفعين يا زهرة.. قام بالضلام يا زهرة
خطف البلوم يا زهرة وأنا ما بنوم يا زهرة
عادّي النجوم يا زهرة
ما حب نصاح يا زهرة.. ما ريد نصاح
أنا قلبي كلو جراح.. لا شاف شفا لا ارتاح
يا ريتني بيناتم.. عشاقك الفصاح
الشالو شيلتنا وفدوك بالأرواح
لكني قدامهم.. عشاقك التايهين
قدامهم الأهوال.. بيناتم الأتراح
ووراهم الأفراح
قد رحنا يا زهرة.. قد راحت الأرواح
يا ريتنا تلقينا.. فالكان وطن قد راح
يا زهرة شفنا الويل، يا زهرة طال الليل
أنسيني في الأغصان، غطيني بي تحنان
وشذاكِ داك الفاح.. خليهو لي دليل
Leave a Reply