
يوسف الغوث
#ملف_الهدف_الثقافي
يَهل علينا المولد النبوي الشريف، فترتحل بي الأفكار، ثم تتشرد الحروف بين محاولات الهروب وإرادة البوح. في عمق اللاوعي، حيث يتدفق الفرح، ويَهل الجمال بشارات مضيئة، فتمتلئ الأمكنة بالحياة، ويغمر النور الفضاء، وتصير الصلاة على خير الخلق واجبًا يتنفسه القلب قبل اللسان.
غير أن واقعنا لا يكف عن مفاجآته المرهقة؛ فالكهرباء تنقطع في معظم لحظات الذكر، فتتحول فرحة الأطفال إلى طواقي الخوف، والسوق مولع نارًا؛ فـ”رطل الحلاوة” أغلى من الذهب، وأسعار الحلاقين وصلت حد المنافسة مع شركات الطيران! وكأن اقتصادنا قرر أن يحتفل بالمولد على طريقته الخاصة: مزيد من الغلاء، مزيد من الأنين، ومزيد من الصبر الذي صار عملة نادرة…
إن سفينة الاقتصاد أشبه بسفينة نوح بعد الطوفان، والبلاء يطال حتى السفن، فلا نوح ولا بوح ولا حتى حمامة سلام تلوح في الأفق… فقط مواطن يجر أوجاعه ويغني: “يا عقد اللولي يا بنت يا حلوة يا مولي…”.
أهرب من فوضى السوق إلى عِشّة “أم رشيريش”، مرتشفًا قهوة بنكهة البساطة، علّ مزاجي يستقيم. ثم أتوجه مسرعًا إلى ميدان المولد، حيث الذكر والذاكرون، وحيث الخيام الصوفية تموج بالروحانيات. يجذبني مجلس الطريقة القادرية، حيث خيمة مولانا الشيخ الطريفي، فأستمع بخشوع لدروس عن سلطان العارفين “أبا يزيد البسطامي”، ذلك الزاهد الذي بحث عن القرب من الله ببطن جائع وبدن عار، في زمن كان الجوع عبادة لا ابتلاء اقتصاديًا أو قسوة إجبارية…
بعدها أتنقل مع أمي – رحمة الله عليها – بين الباعة، نشتري ما تيسر من الحلوى، فأصادف أخي عبد الماجد “جلوك” الذي يذكّرني بحكايات الأولياء والكرامات. أقف مشدوهًا أمام المادح “أبو داما”، ضخم الجثة، رقيق الصوت، صوته يحمل عبق الصحابة وكأنه ظل من نور. ومع الأصدقاء القادمين من أطراف المدينة، يطيب السمر، وتتعاظم الفرحة، فنغدو جميعًا في حضرة رسول الرحمة والهدى، سيد الخلق أجمعين.
وتأخذني الليلة حتى صلاة الصبح، فأؤديها مع الجماعة، وأعود إلى البيت والقلب مطمئن، ثم أستقبل فجر يوم جديد وقد امتلأت الروح بالسكينة والرضا، رغم أن جيبي يذكّرني بأن الغلاء لم ينته بعد، وأننا في حاجة لمديح جديد عنوانه: “اللهم ارزقنا صبر أيوب وراتب قارون!”
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته، سيد الخلق الذي فاق النبيين خُلقًا وخَلقًا، منهل الخير والكرم، ومنه استمد الأولياء والعلماء نورهم وفضلهم. وكل عام وأنتم بخير، في رحاب نور محمد ﷺ.
Leave a Reply