
معماري/ أبو عاقلة رُشاش
على خلفية الاستعدادات غير المسبوقة لاستقبال الطُّلاب الجُدد بجامعة الخرطوم؛ وأنا أتصفَّح ذاكرتي لتلك الأيام من شهر سبتمبر، العام 1983م، كيف كان المزيج من الطُّلاب يتقاطرون من شتى بقاع السُّودان، ريفها وحضرها، قُراها ومدنها، فُرقانها ووديانها، بشتى ملامحهم وتقاطيعهم، تتمازج فيهم ألوان السُّمرة، وملامح محدودة من بلاد الفِرنجة سَرَتْ في الجميع الحِكمة الإلهية “وجعلناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا”.
لقاؤنا الأوّل كان بمدير الجامعة البروف عمر بليل، بقاعة الامتحانات (exm. hall) في ذلك اليوم، ضاقتْ القاعة -على اتّساعها- بما رحُبَت، وجَمَعَتْ ووعَت وقاربت بين الجغرافيا على امتداد أرض الوطن، وبين التّاريخ بكل تفاعلاته، وما بين نخبة مميزة من العلماء، في عُقولِهم أَمْيز ما أنْتَجٌتْه البشرية في مختلف مجالات التَّنشِئة والتَّمحُور والتَّطور والآمال والتَّمني روحاً ومادة، بينما كُنَّا نحن الطُّلاب عَجِينَةً من التَّميُّز عبر مساقات العلم – علمي وأدبي – استطعنا أن نَخْطِف بِطاقات التّأهُل بعد مثابرة وصبر على مدى أكثر من اثنتي عشر سنةً، من الاجتهاد المتواصل تخلّلتها المرحلة الإبتدائية والمتوسطة والثّانوية.
كان كل شيئ في الجامعة يدعو للدّهشة والخروج من دائرة المألوف! يتنازعُك الشّعور أو الاشعارات الكثيفة بين الاستيعاب والتَّوهان، ومحاولة الفَهم والتَّخَطِّي، الأشياء تبدو لك كأنها مألوفة، حانت لها من ذاكِرة الجَمالِ الفُرصة أن تظهر كما هي، مشاهد من مراحل مَضَتْ في جمعيات العلوم، وحِصص الجغرافيا وسِيَر رحّالة الاستكشاف وحكايات مع (ثِيتا) و(بِيتا) و(بَاي نَقْ تَرْبِيع) وتحضير (كلوريد الصُّوديوم) هذه الذّاكرة خَلَقَتْ أرْضِيَّة سَهلة التّواصل بيننا في القاعة، وأسهمت كثيرًا في إزالة توتّر دواخلنا وشُعورنا بالغربة داخل القاعة، بَل زَرَعَتْ فينا شعورًا بأنّنا نَعْرِف بعضنا البعض جيداً، وإن لَّم نَكُنْ قد التقينا مِنْ قِبل. لحظات من جمال الحياة جديرة بالمشاركة. ابْتِدَرنا مشروع التَّعارُفِ، أعرف من حولك، من أي مدرسة تَرشّحتْ؟ كانت الإجابات تتَناثر بتلقائية لِتَرسُم لوحة السّّودان الواحد، المألوفة بكل تَضاريسها، من الشَّمال والجنوب والشّرق والغرب والوسطِ، تَتَقَاسَمُها المَدارس المعلومة -سلفاً- بامتيازاتها الباذخة، وادي سيدنا، خور طقت، حنتوب، بورتسودان، السُّني، الفاشر، نيالا، دنقلا، رمبيك، كادوقلي، واو، جوبا، سنار، المؤتمر، الخرطوم جديدها وقديمها، بحري حكومية، الشّعبية، كسلا، أبوجبيهة الأبيض، عطبرة، كوستي القوز …إلخ، كانت كل مدينة تُذكر، هى في الخاطر، ولها شواهِد من إرثِ شراكَتِها في بِناء الوِجْدان الوطني، بكل ما يَحْمِل المَشْهَدِ مِنْ جمال. كان احتفالاً سنوياً يَرْفِدُ السُّودان برُسُلِِ من كلِ مَناحِيه للمُشَارَكَة في بِناء المُسْتَقبل.
تَتَجاذبُنا اللّحْظات السّعيدة ويَسْرِقُكَ البَصَرُ من حَولِك، بَرِيِدُكَ يَزْدَحِمُ بِالرَّسَائِل من اتجاهات مُتَنَوِّعَة، تَصْمِيم القَاعَة الداخِلي كان تُحْفَة مِعْمَارِية نادرة، تَتَقَاطَعُ فيها حَوامِلُ السَّقف بإعْجُوبة في شكل مثلّثات، لتكون محصلة الأوْزانِ صفراً. وهذه إحدى العجائب الهندسية في إئتلاف الهندسة المعمارية والمدنية، في تطويع فن الممكن، لخلق فراغ ممتد بلا أعمدة، ليستوعب وظائف كثيرة، ويسمح بتعدّد الاستخدامات العملية، في مجملها أفكار غنيَّةٌ بالإبتكارات والاجتهادات، في تفاصيلها الصّغيرة، وفي استدعاء كل مخزون الخيال، وتجسيده في الواقع المحسوس والملموس. الإضاءة الطبيعية والمصنوعة صُمِّمت بكفاءة، بحيث تستوعب خصوصية المكان والغرض، محراب القاعة زُيِّن بآية قرآنية بخط الثُلُثْ العربي بصورة جميلة، تدعو للانتِباه وتزرع الرّهَبة وتُوْحِي بقُدِسِيَّة المَكَان، كَخَلْفِية لِمَنَصَّة القاعة أو مِنْبَر لسَلاطِين العِلِم. وبَيْنَ رَدَهات القَاعة الكَثِيرُ المُثِيرِ مِن لَوحَاتٍ جَماليَة مُتْحرِّكة وثابِتة، وصَدَى الأصواتِ يَذْهَب و يَجِئ،كأنما هي تذكير ببعض حصص الفصول النهائية في المرحلة الثانوية في مادة الفيزياء.
في القاعة يجلس على منبر المحراب، مدير الجامعة وعلى الميمنة منه وشماله، يجلس مساعدوه، بزيّهم المميّز، خلفهم تنتصب لوحة مزيّنة، كشاهد عصر، تحكي سِيَر أجيالٍ مرّوا من هنا، وكتبوا صحائفهم من نور في مدوّنة التاريخ. حشود من الطُّلاب الجّدد، وبعض من القدامى، تنتظم القاعة، رايات وأعلام ترفرف، موجات من العزّ تمر، وكرنڤال فرح يكسو الجميع، حضور جميل في حضرة اللّه والوطن والحقيقة والإنسانية، رسالة مُوزّعة في كل أرجاء الجامعة.
خاطب المدير الجمع، مرحباً بنا، أوْدَع فينا رسائل مُهِمة، أولاها: (نَحْنُ إدَارَة وعامِلون وطَلَاب أُسْرَة واحِدة، بَعَثَتْ بِنا الدَّوْلَة كإدَارَة وأسَاتِذَة وعَامِلِينٌ لِتَأْهِيلِكُمْ، وبِالتٌالِي المُشـَارَكَة في بِناء السُّودان وطَنُنَا جَمِيِعاً) وأتْبَعَها بِرسَائل تَشْرَحُ المُوَجِهَات العامة لِقَوانِين الجَامعة، تَخلَلَتْها بعض المُمَازَحات لِتجعل (البِساط أحْمَدِي) حتى نَستَطيع أن نَسْتوعَب ما يقول. الأشياءُ في دواخِلِي تتَحَرَّك بِسُرعَة وفي كلِ الإتِّجَاهات، اجتاحتني دَوائِر انْقِلابِيَة كثيرة، غطَّتْْني فَرحة عابرة، تمنّيْتُ أن أُتَرجِمُها أُغْنِيّةً تُبَثُ على الحضُور وعلى المَلإ في كل أرْجاء بلادنا.
خَرَجْنا من القاعة وخِطابُ المُدِير يَتَلبَّسُنا، (نَحْنُ أُسْرَة، نحن إخْوَة، نحن سودانيون)
في شَارع ال main road والمكتبة يَمِيِنَنا وكُلِّيَّتَي الآداب والقانون أمَامَنا و كُلِّيَّة العُُلوم خَلفَنا وبَينَها ميادِين خَضراء، ومَقاعِد أسْمنْتِيه مُوزَّعة هنا وهناك، وعلى أطراف الجامعة بقيِّة من الكليات. الهندسة والاقتصاد وعلى البُعْدِ كُلِّيّتَي الطّبِ والصيدلةِ، وفي أم درمان كلية التربية، وكليتي البيطرة والزراعة في بحري.
كان صَدَى كَلِمات المديرِ تُعَاوِدُني (نحن أسرة) ماذا يعني؟ على مدى سنين الجامعة، كُلَّما وَطِئتْ قَدَماي مَوضِع فيها، يَكْبُرُ فيَّ مَعْنَى أُسْرة الجامِعة بكلِ تنوعّها وتشكّلها، وهى حَملِ السُّودان اسماً و معنىً.
اليَوْمُ وأنَا أُطَالِعُ عَبْرَ الأسافِير أنّ الجامِعة تَسْتَعِد لاسْتِقْبال الطُّلاب الجُدَدْ، تَبادَر إلى ذِهْنِي السُّؤال هَلْ تِلكَ الصُّورَة سَتَتَكَرَّر؟ في ذلك اللقاء مع مدير الجامعة، في يقيني أنّه حَدَّدَ لنا مَسْؤليَّاتِنا، لِمَرْحَلة ما بَعدِ الجامعة تجاه الوطن، فهل يعي الجميع اليوم ذلك؟
Leave a Reply