
لم تكن نانا، أو نجلاء عبد الرحمن عوض البحيري، غير طفلة عندما غادرت السودان هي وعائلتها للاستقرار في مدينة جدة بالسعودية. كانت أصغر من ليلى أبو العلا حين انتقلت من الخرطوم لتقيم في أبردين باسكتلندا، وتصبح روائية ملء السمع والبصر.
ويبدو أن نانا تخطو بثقة على ذات الطريق، منذ أن قررت التفرغ للكتابة الإبداعية بعد تخرجها من الجامعة ببكالوريوس إدارة أعمال. وهي الآن، وسط مشاغل كتاباتها الثرة في مختلف المنصات، تنتظر صدور كتابها الأول “امرأة الأسئلة: رسائل لم تكتب”. في هذه الأثناء كان لـ”الهدف” معها، هذه المقابلة.
حاورها: عبد الله رزق أبو سيمازة
الهدف: متى تلمستِ انتماءك لوطنين؟ وهل كان ذلك مدخلك أيضًا لما يمكن وصفه بثنائية الوجود: الحضور في الغياب، البستان في الزهرة، الصمت كإصغاء يمتص البوح؟
نجلاء البحيري: اكتشفت هذا الانتماء باكرًا، ربما حين أدركت أن جذوري تنبض في أكثر من تربة. فأنا بذرة سودانية نمت في تربة سعودية، وحملت ثمرة لها طعم كلا البلدين. قلبي يتوزع بين مكانين دون أن يفقد أحدهما. تلك الثنائية لم تكن انقسامًا بقدر ما كانت اتساعًا، جعلتني أرى العالم بعيون مزدوجة: حضور يتشكل في الغياب، وصوت ينبت من الصمت تمامًا، وبستان ينبض في زهرة، كما يشير محمد المكي إبراهيم.
الهدف: بمناسبة هذه الثنائية الوطنية، هل تجدين تماثلًا بينك والروائية البريطانية السودانية، ليلى أبو العلا؟
نجلاء البحيري: ربما يجمعنا شعور الانتماء المزدوج، وما يتركه من أسئلة في النص والذات، لكن لكل واحدة منا تجربتها الخاصة ومسارها المختلف في التعبير. ما يجمعني بها هو إدراك أن الكتابة تمثل جسرًا بين ضفتين، وأن النص قادر على حمل أوطان متعددة في آن واحد.
الهدف: ماذا تبقى من خاطر للطفولة، ما زال يبرق في البعيد؟
نجلاء البحيري: طفولتي حاضرة رغم أنها لم تكن مثل طفولة بقية الأطفال، نظرًا لطبيعة الحياة وعادات المملكة. كنت أقضي وقتي في دار لتعليم القرآن، حيث تعلمنا الدين، ومارسنا الرسم والتلوين وأنشطة أخرى. كل نشاط كان يحمل حكاية، وكل رسمة أصبحت نافذة أطل منها على عالمي الصغير. هذه التجربة، بين التعلم الديني والإبداع واللعب، تركت أثرًا عميقًا في ذاكرتي، وواصلت تأثيرها لاحقًا على طريقة التعبير والكتابة، وجعلت من الصمت والفراغ مساحة للإبداع والتأمل.
الهدف: كيف ومتى تعرفتِ على الكاتبة في ذاتك؟ وكيف تخلقت، منذئذ، علاقتك إبداعًا بالشعر والقصة والنقد؟
نجلاء البحيري: تعرفت على الكاتبة في ذاتي منذ المدرسة، حين كنت أتميز في حصة التعبير، وأحفظ نصوص الأدب بشغف. مع مرور الوقت، تحولت الكتابة من كلمات بسيطة إلى نافذة أطل بها على الشعر والقصة والنقد. التدوين والبحث لفهم المعنى ساعداني على تطوير قدرتي على النقد. الإلهام هنا نابع من حاجة داخلية، من الرغبة في أن أعطي للعاطفة شكلًا وللصمت معنى. الأقدار التي مررت بها، خصوصًا الانفصال المبكر عن والديّ، تركت فراغًا عميقًا في داخلي. هذا الفراغ علمني كيف أعبر عن المشاعر والحالات الداخلية، وكيف أحول الصمت إلى كلمات، والتجربة إلى نصوص تعكس ما في الروح. وحين أكتب عن الانتظار أو الغياب أو الحنين فهي مشاعر عشتها وهي تجربتي الشخصية، وليست مجرد أفكار نظرية.
الهدف: كيف تلمستِ طريقك من كثافة الفراغ والصمت إلى لطافة الشعر وشفافيته، إلى وعي الذات المنقسمة على ذاتها؟ وإلى أي مدى يمكن للإبداع أن يرتقِ ما انفتق من الروح؟ أن يرفو ما اهترأ من الذاكرة؟
نجلاء البحيري: الفراغ والصمت كانا بيئتي الأولى، لكنهما لم يكونا بلا معنى. الشعر والكتابة كانا وسيلتي لصياغة ما في داخلي، لترتيب الفوضى وإضاءة زوايا الغربة بصمت. الإبداع يسمح للروح بالارتقاء، حتى لو لم يلتئم الجرح تمامًا؛ إنه يرفو ما اهترأ من الذاكرة ويمنح الصمت معنى.
الهدف: من أي قاموس للحنين تنتقين مكونات صوتك الخاص، نبرة بعد نبرة؟
نجلاء البحيري: أستقي مكونات صوتي من ذاكرة عميقة، من الأماكن التي عشتها، ومن وجوه أحببتها، ومن الأصوات والألحان التي حفرت أثرها في قلبي. الحنين عندي ليس مجرد ذكريات، بل هو نبض ينسج الكلمات والنبرات، يعطي الصوت طعمه الخاص ويجعل كل حرف يحمل رائحة الماضي ودفء الحاضر معًا.
الهدف: لماذا تختبئين وراء “نانا”؟
نجلاء البحيري: رغم جمال اسم نجلاء ومعناه، لا أشعر بالارتباط به كما أشعر مع نانا. هذا الاسم أصبح ملاذي الصغير، طريقتي لأكون نفسي بحرية، يمنحني شعورًا بالراحة ويعكس شخصيتي أكثر مما يعكسه اسمي الرسمي. نانا بالنسبة لي ليست مجرد اسم، بل هو امتداد للذات، ينساب بين يومياتي وكلماتي، ويجعل العالم يدركني كما أنا.
Leave a Reply