المقاطعة كأداة للتحرر: بين حركة (BDS) والحملة العالمية للتضامن الإنساني

صحيفة الهدف

المحلل الاقتصادي

#ملف_الهدف_الاقتصادي

لم تعد المقاطعة الاقتصادية مجرّد وسيلة احتجاج رمزية، بل تحولت في العقدين الأخيرين إلى أداة استراتيجية تعيد تعريف العلاقة بين الاستهلاك والعدالة. وتجسد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، التي انطلقت في 9 يوليو 2005، هذا التحول بوضوح. فهي لا تستهدف مجرد التأثير على صورة الكيان الصهيوني المغتصب في الرأي العام، وإنما تسعى لتجفيف منابع الدعم المالي والسياسي للاحتلال عبر الضغط المباشر على الشركات متعددة الجنسيات والحكومات المتواطئة.

قوة المقاطعة في العصر الحديث

تشير تقارير الأمم المتحدة (خاصة تقرير مجلس حقوق الإنسان 2020) إلى أن عشرات الشركات، بينها مؤسسات مالية أوروبية وأمريكية كبرى، انسحبت من أنشطة مرتبطة بالمستوطنات بعد حملات ضاغطة قادتها منظمات المقاطعة. كما أشار البنك الدولي وخبراء اقتصاديون مستقلون إلى أن حركة (BDS)، رغم حداثة عمرها، قد خلقت “مخاطر سمعة” للشركات العاملة في الكيان الصهيوني المغتصب، ما دفع بعضها إلى بيع أصولها أو وقف توسعها الاستثماري. وباتت قطاعات مثل التكنولوجيا الفائقة، والأمن السيبراني، والبنى التحتية للطاقة في المستوطنات، تواجه مقاطعة متصاعدة من اتحادات نقابية وجامعات وصناديق تقاعدية غربية.

إن الدرس الأهم هنا لا يتعلق بحجم الخسائر المباشرة التي تكبدها الكيان الصهيوني المغتصب حتى الآن، وإنما بكون المقاطعة أوجدت آلية ناعمة وفعالة للضغط الاقتصادي والسياسي، عبر سلوك استهلاكي جماعي منظم. فالمستهلك لم يعد مجرّد فرد يشتري سلعة أو خدمة، بل فاعل سياسي يعبر بقراره الشرائي عن انحياز لقيم العدالة والكرامة الإنسانية.

نحو حملة عالمية للتضامن الإنساني

من هنا تبرز الحاجة إلى تطوير “الحملة العالمية للتضامن الإنساني”، التي تتجاوز حدود القضية الفلسطينية -رغم مركزيتها- لتشمل ربط الاقتصاد بالاستهلاك المسؤول في إفريقيا وآسيا والوطن العربي. فالوعي بقدرة “سلوك الشراء” على صناعة فروق ملموسة يجب أن يتحول إلى ثقافة جماهيرية. على سبيل المثال:

  • في إفريقيا، حيث تنشط شركات الكيان الصهيوني المغتصب في الزراعة والتكنولوجيا الأمنية، يمكن لحملات تضامن محلية أن تفضح علاقة هذه الشركات بانتهاكات حقوق الإنسان.
  • في آسيا، يمكن تفعيل شبكات المجتمع المدني والجامعات لتصعيد الضغط على الحكومات التي تستورد منتجات عسكرية من الكيان الصهيوني مجربة على أجساد الفلسطينيين.
  • أما في الوطن العربي، فإن رفع مستوى الوعي الجماهيري -خصوصًا بين الشباب- بربط اختياراتهم الاستهلاكية بالقضية الفلسطينية يفتح المجال لخلق سوق بديل قائم على العدالة والاستقلال الاقتصادي.

الاقتصاد كساحة مواجهة

إن هذا البعد يتجاوز الاقتصاد البحت ليعيد تعريف معنى التضامن الإنساني العالمي. فإذا كان الاقتصاد المعولم قد حوّل الإنسان إلى “مستهلك عالمي”، فإن إعادة تسييس الاستهلاك قادرة على تحويله إلى “مواطن عالمي” يملك أدوات مقاومة رمزية وملموسة في آنٍ واحد. وهنا تكمن قوة الحملة، في تحويل الفرد العادي إلى عنصر مؤثر في معادلة الصراع، لا من خلال السلاح فقط، بل عبر البطاقة البنكية وسلة التسوق وقرار الاستثمار.

تؤكد التجربة أن الاقتصاد ليس حقلاً محايدًا، بل هو ساحة مواجهة بامتياز. والمقاطعة ليست خيارًا تكتيكيًا عابرًا، بل استراتيجية طويلة المدى، تنسجم مع مقولات التحرر الوطني والقومي والإنساني كما صاغها مفكرو النهضة العربية والإنسانية، بأن التحرر من التبعية الاقتصادية شرط للتحرر السياسي. ومن هنا، فإن ربط حركة (BDS) بـ الحملة العالمية للتضامن الإنساني يمثل تطويرًا طبيعيًا للنضال الشعبي في عصر العولمة، حيث يصبح كل فعل استهلاكي أو استثماري جزءًا من معركة تقرير المصير.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.