السودان عند -28%: قراءة في مؤشرات الانهيار الاقتصادي مقارنة بدول الجوار الإفريقي

صحيفة الهدف

مصطفى شارف- خبير اقتصادي
#ملف_الهدف_الاقتصادي

صدر حديثًا التقرير الاقتصادي السنوي الذي يقيس أداء دول القارة الإفريقية، ليُسجّل السودان معدل نمو سالبًا صادمًا بلغ (-28%)، وهو ما يضعه في ذيل القائمة دون منازع.

وقبل الخوض في تفاصيل هذه الكارثة الوطنية، التي تعكس تداعيات الحرب الأهلية المدمرة، يجدر بنا توضيح بعض المصطلحات الأساسية لفهم دلالة هذه الأرقام:

  1. معدل النمو الاقتصادي (Economic Growth Rate):
    هو النسبة المئوية للتغيير في قيمة السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد (الناتج المحلي الإجمالي) خلال فترة زمنية محددة (غالبًا سنة). يشير النمو الموجب إلى تحسن وازدهار في الاقتصاد، بينما يشير النمو السالب إلى انكماش الاقتصاد وتراجع مستوى الإنتاج والدخل القومي.

  2. الانكماش الاقتصادي (Economic Contraction):
    هو حالة من التراجع الشامل في النشاط الاقتصادي، تتميز بهبوط الاستثمار والإنتاج والاستهلاك، وارتفاع معدلات البطالة، وغالبًا ما يصاحبه انهيار في قيمة العملة وتضخم جامح (Stagflation)، وهي الحالة التي يعيشها السودان الآن.

  3. الناتج المحلي الإجمالي (GDP – Gross Domestic Product):
    هو القيمة النقدية الإجمالية لجميع السلع والخدمات النهائية المنتجة داخل حدود دولة ما خلال فترة زمنية. ويُعتبر المؤشر الأهم لقياس حجم وصحة الاقتصاد.

حين يسجل الاقتصاد السوداني معدل نمو يعادل (-28%)، فإن الأمر لا يمكن أن يُفهم باعتباره مجرد تراجع اقتصادي عابر، بل هو انهيار شامل يعبّر عن حالة حرب ممتدة، وانسداد سياسي، وشلل في مؤسسات الدولة، وتدمير للبنية الإنتاجية. فالناتج المحلي الإجمالي (GDP) هو المرآة التي تعكس قدرة المجتمع على الإنتاج وتوليد القيمة المضافة. وإذا تحوّل هذا المؤشر إلى منطقة الانكماش الحاد، فإن الرسالة واضحة: اقتصاد بلا إنتاج، ومجتمع يستهلك ما تبقى من نفسه.

هذا الرقم لا يعبّر فقط عن أزمة، بل عن حالة انهيار شامل، مدفوعة بعوامل أساسية:

  1. الحرب الممتدة التي دمرت البنية التحتية، وأوقفت عجلة الإنتاج.

  2. النزوح الجماعي الذي عطّل القوة العاملة وأفرغ المدن من سكانها.

  3. فقدان الاستقرار السياسي والمؤسسي، ما جعل الاستثمار والتجارة في حالة شلل.

  4. انهيار العملة والتضخم الجامح الذي أكل القدرة الشرائية.

مقارنة مع إفريقيا: النماذج الإيجابية والسلبية

  1. النماذج الإيجابية:

    • النيجر (+14.4%)، والكونغو (+12.1%) تمثلان دولًا نجحت في استغلال مواردها (الطاقة والمعادن والزراعة) مع استقرار نسبي في الحكم.

    • رواندا (+8.6%)، وإثيوبيا (+7.9%) أظهرتا كيف يمكن للاستثمار في البنية التحتية وجذب التمويل الخارجي أن ينعكس نموًا سريعًا.

  2. النماذج السلبية:

    • جنوب السودان (-27.6%) يعيش أزمة مشابهة للسودان نتيجة الحروب والصراعات الداخلية، ما جعل اقتصاده شبه مشلول.

    • زيمبابوي (-4.9%) تعاني من التضخم والفساد وضعف المؤسسات.

ما الذي يعنيه هذا للسودان؟

  1. الاقتصاد السوداني فقد ثلث حجمه تقريبًا خلال عام واحد.

  2. المقارنة مع جيران مثل إثيوبيا أو تشاد توضح أن السودان ليس محكومًا بالفشل، لكنه مرهون بوقف الحرب وإعادة بناء الدولة، بأسس توظيف مقدراتها وإمكاناتها.

  3. كلما طال أمد الحرب، اقترب السودان من نموذج (الدولة المنهارة) اقتصاديًا، مثل الصومال في التسعينيات.

السودان وجواره

مقارنة السودان مع دول الجوار تُظهر الفجوة الصارخة:

  1. السودان: (-28%) — أعمق انكماش في القارة.

  2. جنوب السودان: (-27.6%) — انعكاس لاعتماد مفرط على النفط وتداعيات الحرب.

  3. إثيوبيا: (+7.9%) — اقتصاد ناشئ قوي رغم التحديات الداخلية.

  4. مصر: (+4.2%) — نمو معتدل رغم الضغوط المالية والديموغرافية.

  5. تشاد: (+3.1%) — ضعيف لكنه موجب.

هذه المقارنة تبرز أن السودان وجنوبه يشكلان الاستثناء المظلم في الإقليم، بينما بقية الدول — في ظروف صعبة — تمكنت من الحفاظ على نمو إيجابي.

موقع السودان من أقاليم القارة

إذا وسعنا الدائرة نحو إفريقيا، تزداد الصورة وضوحًا:

  1. شرق إفريقيا: (+1%) — يتأثر بالانهيار السوداني رغم دفع إثيوبيا ورواندا للنمو.

  2. شمال إفريقيا: (+3.2%) — مستقر، تقوده مصر والمغرب.

  3. غرب إفريقيا: (+6.8%) — الأكثر ديناميكية، مع قوى صاعدة مثل نيجيريا وكوت ديفوار.

  4. وسط إفريقيا: (+7.6%) — قفزة كبيرة بفضل الكونغو.

  5. جنوب إفريقيا: (-2.0%) — أزمات جنوب إفريقيا وزيمبابوي.

هنا يتضح أن السودان يمثل القاع الإفريقي بلا منازع، معزولًا عن ديناميات النمو التي تشهدها القارة، بل مثقلًا بمسؤولية سحب الإقليم الشرقي إلى معدلات ضعيفة.

 

المطلوب: جبهة وطنية للإنقاذ الاقتصادي

  1. إيقاف الحرب فورًا: لا يمكن للاقتصاد أن يتنفس بدون سلام.

  2. إعادة هيكلة الدولة على أسس وطنية لا محاصصاتية.

  3. الاستثمار في الزراعة والذهب وتوظيف الموارد بشكل منظم يقطع يد التهريب.

  4. الانفتاح على مبادرات التضامن الإنساني العالمي التي تعاطفت بوضوح مع فلسطين وغزة، إذ يمكن توظيف الروح التضامنية لصالح السودان إذا قدّم مشروعًا وطنيًا عادلًا.

  5. بناء جبهة وطنية عريضة تستعيد الدولة وتوحّد الإرادة الشعبية.

  6. إعادة الإعمار على أسس إنتاجية: التركيز على الزراعة، الثروة الحيوانية، والذهب باعتبارها مرتكزات سريعة للنهوض.

  7. الاندماج الإفريقي: على السودان أن يعود جزءًا من ديناميكيات النمو الإقليمي بدل أن يكون عبئًا عليها.

  8. تثوير الرؤية القومية: البعد القومي التحرري، وخاصة كما يطرحه حزب البعث، حيث يقدم إطارًا لفهم أن معركة الاقتصاد مرتبطة بالسيادة والتحرر ضمن المنظور القومي للأمة العربية، وليست مجرد حسابات مالية.

خاتمة:
رقم (-28%) ليس إحصائيةً في الهامش؛ إنه جرس إنذار لدولة على حافة (نقطة اللاعودة). السؤال الفاصل: هل يُستثمر هذا الانهيار كحافز لتأسيس جبهة شعبية عريضة للديمقراطية والتغيير تُوقف الحرب، وتستعيد الدولة، وتطلق إعادة إعمار إنتاجية تقيس نتائجها بشفافية؟ أم يبقى السودان في قاع الخريطة الاقتصادية يراقب قارةً تتحرك إلى الأمام؟

الإجابة تبدأ بقرار سياسي شجاع، وإطار اقتصادي منضبط، وتحالف اجتماعي يضع الإنتاج — لا الريع — في قلب العقد الجديد.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.