الافتتاحية// اقتصاد المقاومة.. حين تكون السيادةُ الاقتصاديةُ سلاحاً والمعرفةُ قوةً

صحيفة الهدف

#ملف_الهدف_الاقتصادي

مقدمة:
في زمنٍ تتشظّى فيه الخرائط، وتترنّح فيه الإمبراطوريات على وقع الأزمات، ندرك أنّ الصراع لم يعد يُختزل في ميادين القتال وحدها، بل امتد إلى كل مجالٍ يشكّل معنى للحياة؛ من الأسواق المالية إلى الممرات البحرية، ومن حقول الطاقة إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي. إننا أمام حربٍ كونيةٍ تتجاوز حدود الجغرافيا، حربٍ تُخاض على الموارد كما تُخاض على المعاني.

وفي هذا السياق، لم يعد الاقتصاد مجرد آلية إنتاج وتوزيع، بل صار ساحة مقاومة وصراع هوية، بل ساحة تقرير مصير. فالعدوانُ على فلسطين لم يكن سوى تجلٍ فاضحٍ لحقيقة النظام العالمي القائم؛ نظامٌ يتحدث عن حقوق الإنسان فيما يبارك المجازر، ويُنظّر لـ حرية التجارة فيما يفرض العقوبات والحصار، ويُشيد بـ السلام الاقتصادي فيما يقتات على أشلاء الشعوب. لقد انكشفت أكذوبة الليبرالية الجديدة التي جعلت السوق إلهاً حديثاً، وبيّنت التجربة أن رأس المال، حين يتحالف مع الاستعمار، يتحول إلى آلة فناء جماعي.

لكن وسط هذا الخراب تولد معادلة جديدة: اقتصاد المقاومة. ليس الاقتصاد هنا مجرد أرقامٍ في جداول البنك الدولي، بل فلسفة حياة، وممارسة يومية تجعل من الخبز فعل حرية، ومن الزراعة عملاً سيادياً، ومن التعليم تحت الحصار ثورةً معرفية. إنه الاقتصاد الذي يربط بين البقاء والمقاومة؛ بأن تصمد يعني أن تنتج، وأن تُنتج يعني أن تملك حريتك، وأن تملك حريتك يعني أنك دخلت معركة الوجود.

وما المقاومة إلّا إعادة تعريفٍ لاقتصادٍ تحرريّ؛ اقتصادٍ لا يقوم على التبعية للمراكز العالمية، بل على الاستقلال والسيادة. إنها مقاطعة ذكية تعيد توجيه الثروة نحو الذات، وتحوّل المستهلك العربي من مجرد مُتلقي إلى فاعل تاريخي. فكل مقاطعةٍ لمنتجٍ داعمٍ للعدو الإمبريالي والصهيوني ليست فعلًا عاطفيًا عابرًا، بل رصاصةً في شريان اقتصاد الاحتلال، وإعلان ولاءٍ للاقتصاد الوطني والقومي.

إنّ المقاومة الاقتصادية لا تكتمل دون أفقها القومي؛ فالمعركة ضد الصهيونية والإمبريالية ليست معركة قطرٍ معزول، بل هي معركة الأمة العربية بأسرها. وهنا تبرز القيمة التاريخية للفكر القومي كما صاغه حزب البعث العربي الاشتراكي، حين طرح مشروع الاقتصاد العربي الموحّد باعتباره الطريق نحو السيادة والتحرر. فالتجزئة الاقتصادية لم تكن يومًا قدَرًا طبيعيًا، بل كانت أداةً استعمارية لتفتيت القوة العربية وتشظية مواردها. إن تكامل الطاقات الزراعية والنفطية والصناعية والعلمية في فضاءٍ عربي واحد قادرٌ أن يحوّل الأمة من سوقٍ استهلاكي تابع إلى قوةٍ إنتاجية مستقلة.

بهذا المعنى، فإن التحرر الاقتصادي ليس ترفًا نظريًا، بل هو شرطٌ للتحرر السياسي، ومفتاحٌ لانتصار فلسطين التي لا يمكن تحريرها بأدواتٍ مجزأة أو بأوطانٍ محاصرة، بل بمشروعٍ قومي يجعل من ثروات الأمة العربية درعًا لها وسيفًا في يد مقاومتها.

غير أن التحدي الأكبر لا يكمن في المقاطعة وحدها، بل في البناء البديل؛ بناء اقتصادٍ عربيٍّ اشتراكيٍّ تحرريٍّ قائمٍ على الاكتفاء الذاتي، مستندٍ إلى الزراعة والابتكار والمعرفة، محرَّرٍ من شروط التبعية والديون، وقادرٍ على خلق دوائر تكامل بين الأقطار.

إن تحرير فلسطين، في جوهره، مشروع اقتصادي بقدر ما هو مشروع سياسي وعسكري؛ فالمعركة على الأرض هي أيضًا معركة على الموارد والأسواق، على التكنولوجيا والممرات، على الحق في أن يكون للإنسان العربي مستقبلٌ خارج هيمنة الآخر.

إن الرسالة التي تخرج من فلسطين (غزّة) اليوم إلى العالم هي أن المعرفة والاقتصاد صارا جبهةً من جبهات المقاومة. حين يُخترع دواء في مختبر فلسطيني تحت القصف، أو تُزرع حبة قمح في أرضٍ مهددة بالمصادرة، فإننا لا نشهد مجرد فعلٍ تقني أو زراعي، بل نعيش تجسيدًا حيًا لاقتصاد التحرر. وهنا تصبح الجامعة والثقافة والتكنولوجيا شركاء في المقاومة، مثلما يكون المقاتل على خطوط النار.

لقد تهاوت أسطورة الاستقرار الغربي أمام مشهد أطفال فلسطين (غزة) الذين يصنعون من ركام البيوت معاني للحياة. ومن رحم هذه المعاناة يتشكل نظامٌ عالمي جديد، لم نعد فيه مجرد موضوعٍ للقرارات الكبرى، بل طرفًا يصوغ معادلاته. وإذا امتلكنا شجاعة تحويل اقتصادنا إلى سلاحٍ سيادي، ومعرفتنا إلى قوةٍ منتجة، فإن الأمة العربية قادرةٌ لا على الصمود فحسب، بل على صياغة موقعها في العالم القادم.

فلنكن كما زيتون ونخيل أرضنا: عميقَ الجذور، ممتدًا في الزمن، لا ينكسر أمام العواصف. ولنحوّل اقتصاد المقاومة من شعارٍ إلى ممارسة، ومن ردة فعلٍ إلى مشروع، ومن فعل بقاءٍ إلى فعل تحرر. فليكن اقتصادُنا سلاحَنا، وعلمُنا درعَنا، وإرادتُنا دولتَنا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.