ليس كل صحفي يظل اسمه محفورًا في ذاكرة القارئ كما يفعل عبد الله رزق أبو سيمازة. فهو ليس مجرد كاتب عمود، بل مدرسة كاملة في الصحافة السودانية، أمدّت الساحة بأجيال من التلاميذ والطلاب الذين تتلمذوا على يديه واستفادوا من تجربته ورؤيته النافذة. ظل رزق طوال مسيرته يكتب بقلم مشبع بوعي الجماهير، ويقف صلدا إلى جانب قضاياها، لا يعرف المواربة، ولا يساوم على الموقف. فالصحافة عنده ليست مهنة، بل رسالة مقاومة ومعرفة، وأداة لزرع الوعي في النفوس.
هذا الرجل، صاحب العمود الشهير جراب الرأي، اعتاد أن يفتح قارورة الوعي كل صباح، ويسكبها على الورق لتصير مقالات تستفز العقل وتستنهض الهمم. واليوم، بعد عقود من العطاء، يطل علينا رزق بمغامرة جديدة في عالم الكتاب، ليضع بين أيدينا عملين مختلفين ومثيرين، يحمل كل واحد منهما بصمة فكرية خاصة.
الكتاب الأول بعنوان: “بعض الرحيق: الخرطوم تكتب وتلعب بالتراب”، وهو مجموعة قراءات نقدية، تمزج بين التأمل والفكر والأدب. في مقدمته المدهشة يكتب رزق:
“لم تعد الخرطوم، كما كانت في ماضي ارتعاشات الظلال وطفولة الشجر وذاكرة النار، تقرأ وحسب، بل صارت تقرأ وتلعب بالتراب… تكتب حين تكون الكتابة فعل تجاوز وعشق… تنهض من الرماد حروفها لتحترق، لأن في أعماق صمتها ثمة ما يتعين قوله، ما ينكفيء على ذاته بركانًا مؤجلا في مدخل القصيدة…”.
بهذا المعنى، يقدم الكتاب قراءة عميقة لتجربة المدينة، وهي تتحول من فضاء عابر إلى كائن حي يتنفس الكتابة، ويستعيد عبرها حضور الخرطوم في وجدان ساكنيها.
أما الكتاب الثاني، فجاء بعنوان: “مغرب الصحافة السودانية التقليدية: تحديات الراهن ورهانات المستقبل”، وهو عمل بحثي يرصد لحظة تاريخية فارقة، حيث تبدأ الصحافة الورقية بالأفول، فيما تصعد الصحافة الرقمية لتحل محلها. هنا يتأمل رزق مستقبل المهنة التي أفنى فيها عمره، متسائلا عن مصير الصحافة التقليدية في مواجهة التحولات التكنولوجية، وعن التحديات التي تواجه المصداقية والمهنية في ظل هذا التحول.
ما يجعل المشروع أكثر تميزًا هو أن الكتابين صدرا في طبعة أنيقة عن دار آرام، ورافقهما تصميم فني رفيع المستوى، شارك فيه التشكيلي أحمد النحاس والمصمم بكري خضر. بهذا يتحول الإصدار إلى عمل ثقافي متكامل: نص عميق، وغلاف يوازيه جمالا.
إن طباعة هذين الكتابين ليست مجرد مناسبة عابرة، بل حدث ثقافي يستحق الاحتفاء. لذلك ندعو الصحفيين، وطلاب رزق، وكل متابعي جراب الرأي، إلى أن يكونوا جزءا من حفل التدشين المرتقب، حيث ستلتقي الأجيال بذاكرة الصحافة، وحيث يتحول الوفاء لصحفي جسور إلى فعل حي.
فعبد الله رزق لم يكن شاهدا على عصره فحسب، بل كان صانعًا لوعيه. واليوم، يواصل دوره، لكن هذه المرة عبر كتابين يختصران رحلة العمر: بعض رحيق من الفكر، وبعض وعي من مغرب الصحافة السودانية.

Leave a Reply