
محمد ساتي حمد
#ملف_الهدف_الثقافي
الحاجة بنونة، صديقة والدتي، ربنا يمتعها بالصحة والعافية، وفي نفس الوقت جارتنا الحيطة بالحيطة، جمعت بين زوجها “فداسي” ووالدي المهنة والعمل في الشرطة بقرية العقدة.
كانت الحاجة بنونة امرأة جميلة لم تنجب أطفالا يآنسونها في وحدتها، فكانت تطلب من والدتي حين يغيب زوجها فداسي بسبب ظروف عمله التي كانت تتطلب المبيت في النقطة (مركز البوليس)، أن أبيت معها، لأنها وحيدة بلا عيال. كنت حينها أسعد من الحاجة نفسها، بل وأتحرق شوقًا للمبيت معها، إذ كانت امرأة باسمة هاشة باشة، تتمتع بجمال الشكل، وشلوخ عراض تزين وجهها، وتتمتع بجمال سرد الحكاوي والقصص، وهي تداعب مترار القطن، وأمامها صحن الفول المدس المحمص، والتسالي، والبلح وحزمة من مكسرات سودانية بحتة.
وكانت تضع أمامها فانوسًا صغيرًا يضيء الحوش الجميل الذي كنا ننام فيه، وكان يتوسط الحوش المرشوش “عنقريبان” موسران بحبال جميلة؛ واحد صغير لي أنا الحارس، وآخر كبير لها. كانت عيناي تسابق قدماي للذهاب إلى منزلها العامر، وأنا طفل صغير في الصف الثاني ابتدائي بقرية العقدة، تلك القرية الصغيرة التي كانت تضم كرماء ونبلاء أبناء الجزيرة، وبيوت الموظفين في الشرطة والحكيمباشي أو الدكتور مختار.
كانت “الونسة” فوق الحيطة بين والدتي والحاجة بنونة بالنسبة لي إرثاً جميلا وذكريات عطرة، تبدأ بصوت “الكورية” على الحيطه: طق طق طق، و”سلام حباب”، و”كيف أصبحتو”، والمطايبة الصباحية. كنت وأنا صغير أتابع بعض أطراف الحوار ولا أهتم بتفاصيله، إذ كان يتركز على عمل اليوم وبداية الشقاوة من إعداد الطعام وتنظيف البيت وغير ذلك.. لكن أحلى حوار بالنسبة لي كان ذلك الحوار بين والدتي والحاجة بنونة، والمتمثل في طلبها من والدتي أن أذهب لأبيت معها الليلة، لأن “فداسي” اليوم نبطشي وحاينوم في النقطة.
طبعاً، في اللحظة دي بكون قربت أكورك من الفرح والسرور، وكأني بقيت “ميسي” وجبت قون في آخر دقيقة! بالجد، كنت بحسب الساعات منتظر المغرب عشان أمشي للحاجة بنونة “أحرسها”.. أحرس شنو ياخي؟! أنا قبل دعوة الحاجة بنونة بكم يوم فاكيها بكية ولمّيت عساكر النقطة كلهم، لأني خفت واتخيلت حاجات ساكّاني!
المهم، ما بقدر أوصف تلك الأمسيات والقصص الجميلة: من “الشاطر حسن”، و”الأميرة وحذاء الأميرة”، و”الأخوات الثلاثة”، و”التاجر”، وغيرها من القصص، التي كانت تتخللها المكسرات من فول وغيره، والنوم في الحوش الجميل. طبعًا من المفارقات أني أنا الحارس المكلف بحمايتها كنت أنام بعد سماع كم قصة، بينما الحاجة بنونة تواصل الحكي في القصة قبل الأخيرة، بل قبل أن تكملها كمان!
واليوم، وقد مرت السنوات، أين هي الحاجة بنونة وزوجها فداسي، فإن كانوا معنا ربي يطول في أعمارهم، وإن غادروا كما سنغادر ونلحق بهم، ربي يرحمهم ويرحمنا
Leave a Reply