
نجيب مبارك
#ملف_الهدف_الثقافي
في صيف 2025 تحولت المهرجانات الموسيقية الكبرى من فضاءات احتفالية إلى منصات سياسية وإنسانية، عبّرت عن تضامن واسع مع فلسطين تزامنًا مع الحرب على غزة. من أوروبا إلى بقية القارات، ارتفعت الأعلام الفلسطينية ورددت الشعارات المؤيدة، لتؤكد أن الموسيقى ليست فقط للمتعة، بل أداة للتغيير الاجتماعي والاحتجاج السلمي.
هذا التحول أظهر قدرة الفن على تجاوز حدود الأداء التقليدي ليصبح مساحة للتوعية، حيث لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ، بل شريكًا فاعلًا يساهم في تشكيل الرسائل الإنسانية.
باليو ونماذج أخرى
شكّل مهرجان “باليو” السويسري أبرز مثال لهذا التحول. فبعد أربعة عقود من الاحتفاء بالموسيقى الخالصة، امتلأت ساحاته بالأعلام الفلسطينية وتزيّنت الخيام بشعارات الحرية، بينما خصص الفنانون مساحات لدعم فلسطين، مثل السويسري ـ الفرنسي المغربي سامي غالب والأميركي ماكلمور الذي دوّى بشعار “فلسطين حرة” وسط تفاعل ضخم. ورغم إعلان إدارة المهرجان حيادها السياسي، إلا أن العروض والمواقف الشعبية أثبتت العكس، معبّرة عن وعي جماعي متنامٍ.
وفي فرنسا، اتخذ مهرجان “فرانكوفوليز” طابعًا مشابهًا، حيث صعد الفنان الفلسطيني Saint Levant (مروان عبد الحميد) إلى المسرح بأزياء ورقصات رمزية، بينما شهدت مهرجانات أخرى مثل We Love Green وHellfest وLollapalooza انتشار الأعلام الفلسطينية وشعارات التضامن. أما بريطانيا، فقد برز فيها مهرجان “غلاستنبري”، حيث رفع الفنانون والجماهير لافتات مناهضة للحرب وداعية للسلام.
هكذا تحولت مهرجانات صيف 2025 إلى فضاءات يلتقي فيها الفن مع السياسة والوجدان الجمعي، لتؤكد أن الثقافة لا تنفصل عن قضايا الشعوب.
الشباب في صدارة المشهد
كان للشباب دور مركزي في هذا الحراك، إذ لم يكتفوا بالمشاركة في الفعاليات الموسيقية، بل حولوا المهرجانات إلى مراكز تعبئة وتوعية وجمع تبرعات لصالح غزة. وانتشرت مشاهد التضامن على منصات التواصل الاجتماعي مثل “إنستغرام” و”تويتر” و”يوتيوب”، لتتسع دائرة الوعي عالميًا بسرعة.
هذا الحضور الشبابي استلهم تجارب حركات اجتماعية سابقة مثل “حياة السود مهمة” و”جمعة من أجل المستقبل”، ما جعله أكثر حساسية تجاه الظلم وأكثر قدرة على التعبير عنه بطرق إبداعية. وهكذا أصبحت المهرجانات فضاءً جماهيريًا حيًا لإيصال صوت فلسطين وتعزيز التضامن العابر للحدود.
إلى جانب ذلك، نظمت ورشات حوارية وجلسات تعريف بالقضية الفلسطينية، عُرضت خلالها مقاطع وثائقية ونُشرت كتب ومقالات تشرح السياق التاريخي والسياسي للصراع، مما منح الفعاليات بعدًا معرفيًا يعمّق المشاركة الجماهيرية.
بين الحياد والمسؤولية الأخلاقية
أثار الحضور السياسي للموسيقى جدلًا واسعًا؛ فهناك من يرى ضرورة بقاء الفعاليات الفنية محايدة، فيما يعتبر آخرون أن الفن يحمل مسؤولية أخلاقية في مواجهة الظلم. إدارات المهرجانات وجدت نفسها أمام تحدي الموازنة بين حرية التعبير والطابع الاحتفالي، وبين احترام القوانين المحلية وواقع التضامن الشعبي.
مهرجان “باليو” مثلًا أكد أنه منصة للتعددية وأن للجميع حق التعبير، لكنه شدد على ضرورة الحفاظ على الأجواء الفنية. غير أن الجمهور والفنانين فرضوا واقعًا مختلفًا، إذ تحولت الساحات إلى فضاءات تعكس نبض المجتمعات الحيّة، وتُظهر أن الموسيقى قادرة على أن تكون جسرًا ثقافيًا وإنسانيًا يعزز قيم الحرية والعدالة والكرامة.
سياق تاريخي
هذا الارتباط بين الفن والسياسة ليس جديدًا؛ فقد رافقت الأغاني حركات التحرر في كل مكان، من نشيد الحقوق المدنية في الولايات المتحدة إلى أناشيد المقاومة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وصولًا إلى الأغاني الاحتجاجية في ثورات العالم العربي وحركات التغيير. ما يحدث اليوم هو امتداد لتاريخ طويل يثبت أن الموسيقى كانت دومًا سلاحًا ناعمًا في مواجهة القهر.
الفن في طليعة النضال
لقد شكّل صيف 2025 منعطفًا في علاقة المهرجانات الموسيقية بالقضايا السياسية والإنسانية. فقد خرجت من كونها فضاءات احتفالية إلى منصات تضامن عالمي، عبرها رُفع صوت فلسطين في وجه المجازر والعنف، وطُرحت دعوات السلام والعدالة.
هذا التحول التاريخي أكد أن الفن ليس ترفًا، بل قوة وجدانية وثقافية قادرة على توجيه الرأي العام وإحداث التغيير. ومن المأمول أن تستمر المهرجانات في لعب هذا الدور، لتجسيد صوت الشعوب المضطهدة، ونشر قيم الحرية والكرامة، وترسيخ أن الموسيقى يمكن أن تكون دومًا في طليعة المعركة من أجل العدالة والسلام.
Leave a Reply