
عصام حسن إبراهيم
#ملف_الهدف_الثقافي
تطلُّ علينا هذه الأيام ذكرى المولد النبوي الشريف كفجرٍ بهيٍّ يبدّد ليل الأرض الطويل، ويذكّر القلوب بأن لحظة ميلاد محمد عليه أتم الصلاة والتسليم، لم تكن حدثًا عابرًا في دفتر التاريخ، بل كانت بداية عصر جديد أشرقت فيه شمس الهداية، وانقشع غبار الجاهلية، وارتفعت راية الإنسان مكرَّمًا عزيزًا.
لقد وُلد رسول الرحمة في بيئة يثقلها الظلم وتطحنها العصبية القبلية، فجاءت رسالته لتفتح نوافذ النور على قلوب أرهقها التيه، وليعلّم البشرية معنى العدل والحرية، ومعنى أن تكون الرحمة لغةً تسري في المعاملة، قبل أن تكون لفظًا يقال أو شعارًا يرفع.
وليس الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام أن نغرق في الزينة والأهازيج فحسب، بل أن نجعل من هذه الذكرى العطرة دعوةً للتأمل والاقتداء. أن ننظر في مرآة سيرته، فنرى كيف كان صادقًا لا يعرف الكذب، رحيمًا لا يعرف القسوة، عادلا لا يرضى بالظلم. أن نستحضر صورته وهو يواسي اليتيم، ويحنو على الأرملة، ويبتسم في وجه أصحابه، ويقود أمته بقلوبٍ مفعمة باليقين.
وإن لأهل السودان خصوصيةً متفرّدة في الاحتفاء بهذه الذكرى؛ فالمولد عندهم ليس مناسبة عابرة، بل موسم للوجدان الشعبي، تزدحم فيه الساحات بالمدائح النبوية، وتفوح من الأركان رائحة الحلوى السودانية المميزة، وتتوحد فيه الأجيال على نغمة حب الرسول (ص). إنه احتفال يختزن في ذاكرة الناس ذكريات الطفولة والحي والحارة، حيث تصطف الجموع في حلقات الذكر، وتتزين القلوب قبل البيوت، ويشعر المرء أنه جزء من نهرٍ روحي عظيم يجري منذ قرون في أرض النيلين، رابطًا الحاضر بالماضي ومؤكدًا أن محبة الرسول جزء أصيل من هوية هذا الشعب.
إن التأسي بالرسول الكريم ليس رفاهًا روحياً، بل هو حاجة إنسانية وضرورة حضارية. فما أحوجنا اليوم، في زمنٍ تضطرب فيه القيم وتكثر فيه الفتن، أن ننهل من معين أخلاقه، فنغرس في واقعنا شيئًا من صدقه، وشيئًا من صبره، وشيئًا من رحمته التي وسعت القريب والبعيد.
وكلما أطلّت ذكرى المولد، تذكّرنا أن الرسالة التي جاء بها لم تكن لطائفة أو زمان بعينه، بل للعالمين جميعًا. قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾. فلتكن هذه الرحمة ميزاننا في حياتنا، ومصباحنا في دروبنا، وعهدًا نجدد به ولاءنا للرسول الذي حمل إلينا نور الله، ومضى تاركًا أثرًا خالدًا لا تمحوه السنون.
المولد النبوي إذن ليس ذكرى تُروى، بل حياة تُستعاد. هو دعوة مفتوحة لنعيش كما عاش النبي: بصدقٍ يرفعنا، ورحمةٍ تضمنا، وعدلٍ يعيد للإنسان قيمته. ومن سار على خطاه، فقد احتفل به حقًّا، لا بلسانه فقط، بل بفعله وسلوكه.
Leave a Reply