وهبة الرمتالي يكابد حرقة الأسئلة

صحيفة الهدف

جمال غلاب
#ملف_الهدف_الثقافي

في هذا العصر الحديث هناك رجل في منتصف العمر، يخرج من البيت كل صباح ويذهب مباشرة إلى موقف الحافلات المتوجهة إلى السوق العربي كما يفعل غالب أهل المدينة. الحافلات بشعة ومهلهلة وبين كل فينة وأخرى تدور معركة صغيرة صامتة بين جمهور الركاب فور وصول حافلة “أبو القدح” أو “قريس” أو “هايس” للظفر بمقعد ما أن يحتله الفائز حتى يستل موبايله ليضيع في العالم الرقمي.
الرجل واسمه عبد الوهاب أو وهبة كما ينادونه اختصارًا لديه مخطوط رواية غير مكتملة، وهو لم يكمل دراسته، لأنه تركها ليجد عملًا، لكنه لم يكمل شهرًا في أي وظيفة شغلها، ويسكن في منزل غير مكتمل، بالتعويضات وهي منطقة غير مكتملة تقع إلى الشرق من ضاحية الحاج يوسف وعندما تلقي نظرة خاطفة على وهبة يمكنك أن تخمن أنه شخص لا يحصل على الغذاء الكامل المتعارف عليه دوليًا وفي الحقيقة هو يعتمد على وجبة واحدة قوامها الفول طيلة تواجده في المواقع اليومية المعتادة، التي يطوف بها، يتناول وجبته المشلهتة كل يوم مع مجموعات متنوعة من المعارف والأصدقاء، أما إذا انتقلنا إلى وصف ملابسه فهي رثة وغير مكتملة أيضًا، فالقمصان دائمًا ينقصها بعض الأذرار و إذا تصادف اكتمال أحد أقمصته من ناحية عدد الأذرار فهو لا بد ممزع ومسهوك عند موقع الكوعين، ولونه حائل عند موقع الظهر نتيجة للاتكاء على حوائط مركز جنوب الصحراء الثقافي وغيرها من حوائط أخرى في الأنحاء وهو بعد ذلك قوقو من سوق ستة، هذا دون أن نتطرق لمسألة الأندر وير لأنها من التابوهات أو شيء من هذا القبيل، ولكيلا لا نسترسل، نود أن ننوه إلى أننا أوردنا كلمة ضاحية أعلاه لنجاري موضة رائجة هذه الأيام، تقضي بأن لا يرد ذكر لاسم أي حي من أحياء الخرطوم – هذه المدينة الحافلة بكم مهول من التناقضات والأوهام والنفايات إلى جانب الكثير من السجم والرماد – إلا مسبوقًا بكلمة ضاحية المكتشفة مؤخرًا.
وهبة يجازف الحياة مجازفة، وتحدث تلك الحياة في مواقع تتوزع بين المراكز الثقافية والتدريبية والمنتديات وأبرز تلك المواقع: ساحة إطعام الحمام الشهيرة قريبًا من القصر وشارعه ومركز المتوسط الثقافي، ومركز الثاقب للتنمية البشرية ومركز جنوب الصحراء المذكور آنفًا وغيرها، و صاحبنا لديه سجّل حضور متذبذب لكثير من الورش والدورات التدريبية فهو قلما يكمل أحداها كما هو متوقع، لكنه ولحسن الحظ نجح وبمساعدة الأصدقاء في الحصول على شهادات جميع الورش، التي يكون موجودًا في بدايتها فقط، تلك الشهادات، التي تقر أن فلان قد أكمل الحصة التدريبية لفن إدارة الوقت، أو الدورة التحضيرية لإعداد القادة الشباب، أو الكورس المكثّف لميسري إدراج الجندر في الصحة والتنمية بمناطق النزاعات، لكيلا لا نتطرق لدورات البرمجة العصبية المتعددة والحصص التدريبية لاكتساب السوفت سكيلز وعشرات الدورات، التي يبدأ اسمها بفن إدارة كذا وعشر خطوات للحصول على كيت.
شباب؟! يبتسم وهبة في وجه الزمن العنيد مرددًا بيت الشعر الشهير:
لا تعجبي يا سلم من رجل ………..
و تتسع البسمة قليلًا: ثم إنها حياة تكاد تكون خالية من “السلمات” يا رجل، حافلة بالدورات والتدوير وهاهو يتخطي الأربعين وليس في جعبته سوى رواية لم تكتمل وكثير من شظايا الأحلام المكسرة المفتتة تخز الروح والجسد معًا. كائن جزافي بامتياز. هكذا يصف نفسه.
مؤخرًا، انتهت دورة “تسخير وسائط التواصل الاجتماعي لخدمة قضايا الانتقال الديمقراطي” وهو حضرها في يومها الأول، وللدقة في ساعاتها الأولى ثم غادر القاعة حسنة التكييف مفضّلًا قضاء النهارات ما بين جمبة وأخرى، يبصق سفة، ليستبدلها بسفة، ويحدق ببصر زائغ قليلًا في الحركة الموجية لسنتر الخرطوم ويحاول الإجابة على سؤال: ثم ماذا بعد؟
“الأمواج لا تذهب ولا تجيء”. ربما تصلح هذه الجملة لإضاءة الوضع النفسي المأزوم لبطل الرواية، التي لا تريد أن تخطو إلى الأمام قيد أنملة. الجيد في الموضوع أن صديقه حافظ استلم شهادته نيابة عنه، لكن هل ستفلح هذه الشهادة وأخواتها في تجديد الطاقة الإبداعية الكامنة في ضميره ليضيف صفحات أو حتى بضعة أسطر للرواية اللعينة؟ هل سيتمكن يومًا من توظيف استراتيجيات صنع القرار للظفر ببضع لحظات مفعمة بحياة حقيقية، بمغامرات وانتقالات لا يجب أن تخطر على البال أصلًا، حياة غير هذه المرتجلة، التجريبية، التي يخوض غمارها منذ سنوات من دون أن يستبين بصيص ضوء في آخر النفق، هل سيحصل لنفسه على سترة تقيه رصاص الواقع المرّ أو يد تمتد وتنتزعه من التقلب على سفود الخيبات اليومية الصغيرة وقد تراكمت وغدت جبلًا؟
يا حليلك يا وهبة، “عجزت وما انجزت”.
بعد كل هذه السنوات على هذا الحال، أصبح مؤمنًا إيمانًا قاطعًا أن من يسمونهم بالميسرين ما هم إلا رهط معاطين كل همهم الحصول على عشيقة ما من بين الأوانس الرائحات الغاديات، واحتيالهم لا يخفي على خبير مثله، والخرطوم مدينة لا أمل في نهضتها حيث كل شيء مغبر كالح، واللعبة، التي أفرط في الانغماس فيها وبقدر كبير من الجدية الساذجة ما هي إلا فساء بذيء، ورغم كل الكتيبات الإرشادية والبروشورات والفليرات وجلسات العصف الذهني والدصكشن قروبز والبرزنتيشنات، التي تشرح كل شيء و تجيب على أي سؤال وتمنح خرائط طرق للخروج من كل المطبات خروج الشعرة من العجين، فإن كل أمر لدى وهبة عسير والحياة مأساوية حدّ الوجع، أو حد النزيف أو حد أي شيء على وشك الانهيار، المهم أنها مأساوية بطريقة لا يمكن وصفها كما يُقال.
ربما تأخر الوقت بالنسبة له، على الظهور بمظهر من يبحث عن سلمى، فما هي الخيارات الأخرى المطروحة لمحاولة الخروج من هذه الورطة غير الوريفة يا سيد وهبة؟ تذكر وهبة أن إحدى الدورات قد شددت على أن المشي يساعد على التفكير الهادف، كما أنه أفضل وسيلة لطرد الطاقات السلبية، ويقوم بصنع فرشة للطاقات الإيجابية، بما يبعثه من نشاط في خلايا الدماغ. مشي وفي هذا الحر؟ تأفف وهبة جالسًا وكاد أن يرمي بعيدًا بفكرة مغادرة الجمبة، التي أمضى على بنابرها كل نهاره حرفيًا، لكن هاتفًا خفيًا وزّه قائلًا: قم يا وهبة، حرّك تحرك، أنت لست شجرة. لاحظوا أن هناك صلة قرابة بين كلمة حرفيًا الواردة هنا وكلمة ضاحية الواردة هناك لجهة كثرة التداول لكن ليس هذا هو موضوعونا الآن، فقد قام الرجل، نهض وهبة أخيرًا وفجأة اكتست ملامحه بانفعالات شخص يهبّ للدفاع عن نفسه ضدّ عدو مجهول، أو يتهيأ للهجوم على خصم مجهول هو الآخر، قد يسدّ عليه الطريق في أي لحظة. وفي الحقيقة كانت كل الطرق مسدودة حرفيًا. إنها ساعات الذرورة، التي يتذروى فيها الكون بطريقة لا تخلو من فكاهة حامضة. يعلم وهبة أنه ليس أكثر من بولتاريا رثة مهما حاول ادعاء غير ذلك، لكنه لن يستسلم للهواجس الرخيصة، وسينجو من العولاق، الذي حبسته فيه الظروف كل هذه السنوات بما يشبه المعجزة.
بينه وبين نفسه أحس وهبة أن هذا اليوم سيكون حاسمًا، و ربما أخيرًا حانت لحظة التغيير والخلاص من الدائرة الجهنمية المليئة بالورش والشهادات الهبودية، ربما أخيرًا، سينتهي كل هذا اللف والدوران، الذي بلا طائل. لا يعلم وهبة لماذا استولى عليه التفاؤل واشتعل جسده وعقله معًا بالطاقات الإيجابية والرغبة في القيام بالأمور بشكل مختلف. لقد شددت إحدى الدورات التدريبية على ضرورة أن يغادر المرء ما يعرف بمنطقة الاسترخاء comfort zone وأن يشرع في مقاربة الأمور بطرق جديدة غير معتادة وعلى المرء أن يفاجيء الأشياء قبل أن تدهمه الأشياء بما لا قبل له من مفاجآت، وأن يفاجيء أيضًا ذاته، ما وسعه الجهد، فاليوم يومك يا وهبة، فلا تدع الفرصة تفلت من بين يديك.
في وقفته المتأملة، قرر أن يركل كل هذا فورًا، فشيّع الساحة بنظرة فيها كثير من السخط وعدم الرضا واستدار ليبحث عن طوق نجاته مسترشدًا بذبذبات طاقة إيجايبية حلّت عليه من حيث لا يحتسب. قادته قدماه إلى كبرى الحديد، فصعد إلى مسار المشاة عبر السلم الحديدي المتآكل وأخذ يملأ صدره من الهواء وينظر إلى النيل في تحدٍ سافر. للحظة فكر أن المياه تدعوه إلى الغرق، فأشاح بوجهه عن صفحة النهر العكرة وركز في النظر أمامه حتى لا تتسرب إليه أي طاقات سلبية قد يبعثها تأمل الحياة المائية والمراكب المتهالكة على سطحها.
ظط وجد نفسه في شارع الكنيسة بحري ومن هناك يمكنه أن يركب حافلات سوق ستة عائدًا من حيث أتي. لكن طاخ وجد طوق نجاته أخيرًا قابعًا على بسطة أحد فريشة الكمبوني، فأقشعرّ وكاد يرقص طربًا.
ما هذا الكتاب، أهو كتاب أم صافرة نهاية مباراة العذاب.
نظر إلى الفريش نظرة فيها بعض الفرفشة وشيء من المكر.
تناول الكتاب من الأرض.
– بكم يا عمك.
– ميتين، قال الفريش بدون أن ينظر لوهبة ولا للكتاب.
– مية ونبقى مارقين.
– ظابط يا خوة.
كيف تنمي قدراتك بدون دورات تدريبية؟
مخرجات دورة بناء الذات برعاية المركز الدولي للتدريب وبناء القدرات (عنوان جانبي كدة)
حدق وهبة في الغلاف، وشعت عيناه بومض غريب مريب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.