حين يُستبدل الدرس بالرصاصة: جريمة تجنيد الأطفال في السودان

صحيفة الهدف

م. منعم مختار
#ملف_الهدف_الثقافي

في بلدٍ كان من المفترض أن يكون الكتاب فيه أداة صعودٍ نحو المستقبل، تحوّل إلى أن يُزاح جانبًا لصالح البندقية. إنّ ثقافة الزجّ بالأطفال في الحرب لم تعد حوادث متفرقة، بل سياسة ممنهجة مارستها أطراف النزاع في السودان بلا مواربة. وما يزيد الفضيحة فجاجة، أن الحكومة نفسها منحت الغطاء لما هو في جوهره جريمة حرب مكتملة الأركان، حين قرر وزير التربية إعفاء الطلاب المشاركين في المعارك من الرسوم الدراسية. أي أنّ المدرسة لم تعد ملاذاً ضد الحرب، بل بوابة إليها.

هذه ليست المرة الأولى؛ فالماضي يفضح الحاضر. من “مليشيا البراء بن مالك”، التي استدرجت أطفال دار المايقوما، إلى “درع السودان” و”المقاومة الشعبية”، ظلّ الطفل السوداني وقودًا لصراعات الكبار. الجيش وحلفاؤه يبرّرون ذلك بغطاء مؤسسي، بينما الدعم السريع لا يتورع عن استدراج النازحين القُصّر بالمال والخبز والهواتف. مشهدٌ سريالي: صبية يحملون سلاحًا أثقل من أجسادهم، يهتفون بشعارات لم يفهموها، ويُدفعون نحو موتٍ لم يختاروه.

النتيجة ليست فقط أجسادًا هشّة تتهاوى في ساحات القتال، بل أرواحًا مشوّهة. هؤلاء الصغار يعودون بذاكرة مثقوبة بالكوابيس، ونفسٍ عاجزة عن الاندماج في حياة طبيعية. خسروا طفولتهم، وخسروا حاضرهم، وربما خسروا قدرتهم على بناء مستقبل سوي. والأدهى أن بعضهم تطبع مع العنف حتى صار القتل عادة.
الجريمة مزدوجة: قتل الطفولة، وتشريع القتل. فبينما يزجّ الدعم السريع الأطفال سرًا، يجرؤ الجيش على شرعنة الجريمة عبر قرارات وزارية وخطاب ديني وإعلامي يُسوّق للموت وكأنه “شهادة أسمى من الشهادة المدرسية”. كأنّ مؤسسات الدولة ووعّاظ السلاطين قد اتفقوا على تحويل التعليم إلى خط إنتاج للمقاتلين.

لكن التاريخ لا يرحم. ألم يُدان الكونغولي توماس لوبانغا في لاهاي بالسجن 14 عامًا لتجنيده أطفالاً؟ ألم يُحاكم قادة سيراليون لنفس الجريمة؟ إذن فمستقبل قادة الحرب في السودان قد يكون نسخة أخرى من هذا المصير.

إنّ ثقافة تجنيد الأطفال ليست عرضًا جانبيًا للحرب، بل جوهرها الأكثر فظاعة. إنها حرب ضد الطفولة، وضد الذاكرة الجمعية، وضد مستقبل أمة كاملة. في النهاية، يخرج السودان خاسرًا: أجيال ممزقة، أمهات مفجوعات، وقادة يتباهون فوق أنقاض إنسانيتهم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.