المولد النبوي في السودان.. دفوف سكتت ورايات خفتت في ظل الحرب

صحيفة الهدف

مجدي علي
#ملف_الهدف_الثقافي

رايات ترتفع ودفوف تضرب.. أرواح تهيم في ملكوت عشق من يتشوّق المسلمون لرؤيته وشفاعته.. مديح يتردد بلغات الأرض، واحتفالات تمتد في أصقاعها، احتفاءً بذكرى مولد نبي الإسلام محمّد، صلى الله عليه وسلم، أعظم خلق الله وأفضل الأنبياء. المولد النبوي عندهم مناسبة دينية وروحية واجتماعية، تتجلّى فيها محبة المسلمين للرسول الكريم. وعلى مرّ العصور ظلت ذكرى المولد حدث يجمع بين العبادة والفرح الشعبي، حيث يلتقي الناس على ذكر النبي واستحضار سيرته العطرة، في وحدة وجدانية عابرة للحدود والعادات.
تقول المراجع التاريخية إلى أن أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منتظم هو ملك أربيل، أبو سعيد كوكبري. ثم احتفل الفاطميّون به، قبل أن يأمر الخليفة المستعلي بالله عام 488 هـ بإيقاف الاحتفال وبعد ذلك اقتصر إحياء الذكرى على توزيع الحلوى والصدقات والتوجه إلى المساجد. ومع تعاقب السنين والدول، تنوّعت الطقوس، من إلقاء الشعر والمدائح في عهد الأيوبيين، إلى الاحتفالات الكبيرة الفخمة في العهد العثماني.
في السودان، يبدو أن أمر الخليفة المستعلي بالله لم يكن ذا أثر كبير، إذ ظلّ الاحتفال بالمولد النبوي يحمل نكهة متفرّدة عن أي مكان آخر. تتحوّل الساحات الشعبية والزوايا الصوفية إلى لوحات مضيئة بالأعلام الخضراء والزينة، فيما تصدح الحلقات بمدائح الحُب والشوق للرسول. تنتشر ألعاب الأطفال، وتباع “حلاوة المولد” لأسابيع، لتغدو المناسبة كرنفالًا شعبيًا يجسّد عمق الروح السودانية وارتباطها بالتصوف والذكر الجماعي.
لكن هذه الطقوس التي كانت تملأ شوارع السودان بالأنوار والبهجة، تراجعت في السنوات الأخيرة تحت وطأة الحرب. غابت الزفة، وانطفأت الدفوف التي كانت تُعلن قدوم المولد، وخَلَت الساحات من مواكب الطرق الصوفية، ولم تعد حلوى المولد تزيّن البيوت. الأطفال الذين كانوا يحتفلون تفرّقوا اليوم بين نزوح ومعاناة. وهكذا، تحوّل المولد الذي كان عيدًا شعبيًا جامعًا إلى ذكرى مؤلمة تستحضر معاناة أهل السودان وما فقدوه من أمن وسلام. لم تكن مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي وحدها هي وحدها ما تغير، فالتغيير شمل مجمل تفاصيل حياتهم.. فالبيوت التي كانت تضجّ بالزينة والأغاني أصبحت خاوية أو مثقلة بذكرى الغياب، والأسواق التي عُرفت بحيويتها غمرها الركود، المساجد هجرت، وساحات المولد تحولت إلى مقابر ومراكز إيواء، حتى المناسبات الاجتماعية والدينية فقدت بريقها أمام قسوة النزوح وضغوط المعيشة. تبدّلت الأذواق والعادات مع تبدل الظروف؛ فاليوميات التي كانت تُبنى على الطمأنينة واللقاءات تحولت إلى ساعات صراع من أجل البقاء، ورغبة في الحفاظ على ما تبقى ذكريات وروابط التي يهددها التشتت والشتات..
ذكرى المولد النبوي يحييها المسلمون في مختلف أنحاء العالم بطرائق متباينة، تبعًا لاختلاف المذاهب والعادات، لكنها جميعًا تشترك في مظاهر مشتركة، حيث تعلو أصوات الدفوف والمادحين، وتُتلى المدائح في حلقات الذكر والإنشاد. وعلى الرغم من الجدل حول مشروعية الاحتفال، فإن محبة النبي الكريم تبقى هي الرابط الأسمى الذي يجمعهم، ويجعل هذه الذكرى مساحة رحبة لتجديد الشوق إلى زيارته وطلب شفاعته وحَرّ شوقهم لرؤياه.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.