
#ملف_الهدف_الثقافي
في زمن تُقصف فيه المدن وتُمحى الذاكرة بصواريخ قبل أن تُمحى بالكتب، تصبح الثقافة والفنون والأدب ساحات قتال لا تقلّ خطورة أو أثرًا عن ميادين الاشتباك المسلّح. الكلمة هنا لم تعد زخرفة بل درع، الصورة لم تعد لحظة عابرة بل شهادة وجود، والمشهد الإبداعي لم يعد هامشًا بل ساحة استراتيجية لإعادة إنتاج الوعي وتثبيت الوجود. أمام هذا الواقع يصبح واضحًا أن المواجهة مع الاستعماريّة-الصهيونية ليست فقط نزاعًا على مساحة جغرافية أو سلطة سياسية، بل هي صراع على الذاكرة واللغة والسرد، فمن يملك أن يروِ التاريخ، ومن يملك أن يصوغ معنى المستقبل.
الثقافة بوصفها جبهة ليست استعارة بل واقع عملي. إنها ليست حيادًا نقديًا معزولاً في معمل الجمال، بل فعل وجودي-أخلاقي يقتضي الانحياز لمن يخوض معركة الوجود ضدّ مآخذ المحو والإقصاء. هذا الانحياز لا يعني تزييف النقد أو إلغاء الأسئلة، بل يعني أن يكون للإبداع موقع التمكين، أن يكون للشعر واللوحة والرواية والسينما دور في حماية ذاكرة الشعوب، وفي تكريس سرديات تُعيد للإنسان المقهور حقوقه الرمزية والسياسية. حين استثمرت بعض التجارب القومية الثقافة كسلاح للتحرير، لم يتحقق ذلك عبر خطاب دعائي سطحي، بل عبر بناء ممارسات ثقافية مؤسسية، مدارس للفن، مؤسسات نشر، خطوط دعم للبحث والإبداع، وتعليم يقرأ التاريخ بعيونٍ تحررية. ذلك ما يجعل الثقافة قوة لا تُقهر: لأنها تشتغل على الأعماق، تشق طريقها في مخيال الأجيال، تعيد تشكيل الرؤية الذاتية والقدرة على المقاومة. لقد جسّد حزب البعث العربي الاشتراكي هذه الرؤية حين طرح مفهوم الثقافة القومية بوصفها سلاحًا للتحرر وأداة لتوحيد الوجدان الجمعي للأمة العربية. وفي تجربة الحكم الوطني في العراق، تحوّلت الثقافة إلى مشروع مؤسسي يستنهض الطاقات الإبداعية ويضعها في خدمة المعركة الكبرى، في مواجهة الاستعمار والصهيونية. فالفنان والشاعر والمثقف لم يكن مجرد شاهد على الحدث، بل فاعل في صياغة الوعي الجمعي وتثبيت مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها جوهر النضال القومي. إن تلك التجربة تؤكد أن الثقافة، حين ترتبط بمشروع قومي تحرري، تتحوّل من إنتاج جمالي إلى طاقة تعبئة قادرة على مواجهة آلة المحو الصهيوني، وتمنح المقاومة الفلسطينية بعدها العربي الأوسع، بما يجعلها قضية الأمة لا قضية قطرٍ محاصر فحسب.
المعركة ضدّ الهيمنة ليست فقط مواجهة عسكرية أو سياسية، بل هي حرب لغوية وإيديولوجية. الهيمنة تصوغ الواقع عبر تصغير الآخر، وإعادة تسميته، وتحويل نزاع وجودي إلى مسألة أمنية أو إجرامية. الثقافة المضادة تعيد تسمية الأشياء، تكشف عن البنية الرمزية للاستلاب، وتعيد للأحداث معناها الإنساني. الفن الذي يوثّق، الرواية التي تستعيد التاريخ من لغة الطرف الأقوى، الأغنية التي تضاعف صوت الفقير والمقهور—كلها أدوات ضدّ محاولة الإلغاء. ومن هنا يتجلى البعد الأخلاقي للثقافة، ليس مجرد إنتاج جمال، بل إنتاج حقائق تُواجه الأكاذيب وتقاوم استفراد السردية الواحدة.
لا تكفي النبرة البلاغية هنا، فالثقافة-الجبهة تتطلب بنى مؤسسية وممارسات يومية. لا بد من برامج ترجمة ترافق الشعب، من أرشفة رقمية تحفظ الوثائق والشهادات، من مهرجانات تقيم جسور تضامن مع حركات التحرر في العالم، ومن دور نشر ومراكز فكرية تُمكّن المعارف من مقاومة محاولات المحو. المطلوب أيضًا مدارس ثقافية تُدرّب على صياغة السرد المضادّ ومناهج تعليمية تعيد للأطفال ذاكرة تاريخهم دون وصاية خارجية. ينبغي أن تكون الجامعات والأندية الثقافية والنقابات والهيئات الأدبية في قلب هذه الجبهة، لا متفرِّجة على الحدث. الثقافة بدون تنظيم تصبح طيفًا هشًا أمام آلة الهيمنة.
ومع ذلك يجب أن نبقى يقظين أمام خطأين قاتلين: أوّل، تقديس الثقافة كبديل عن السياسة؛ وثانٍ، تحويلها إلى بروباغندا عقيمة. الثقافة الفاعلة هي التي تُغذي السياسة بأفكارٍ تحررية وتكوّن أرضًا شعورية تستدعي سياسات عادلة، لكنها تظل نقدًا للسياسة حين تنحرف عن مصلحة الشعب. الفن الحرّ يحتاج إلى استقلالية نقدية، ولهذا كانت الحرية الفنية والحماية القانونية للمبدعين ركنين لا مناص منهما في أي واجب ثقافي جاد.
لقد علّمتنا تجارب نضالية عديدة أن الفن قادر على تحويل الألم إلى معرفة، وأن الذاكرة الشعبية أقوى من محاولات التجميد التاريخي. من يقرأ سجلات الأغنية الثورية والقصائد التي رافقت حركات التحرر يكتشف أن الثقافة لم تكن يومًا مرافقًا بل كانت محرّكًا ومبادرًا. لذلك، علينا أن نعيد الاعتبار لما يسمى (المشهديّة الثقافية)، أن ننقل السرد من المتاحف والصفحات الداخليّة إلى الشارع، إلى المدارس، إلى المسارح والمخيمات، إلى كل مكان يتنفس فيه الإنسان. التقنيات الحديثة تمنحنا فرصة مهمة، من حيث أرشفة رقمية تخلد الشهادات، ومنصات بثّ تنقل الأصوات المحجوبة، وشبكات تواصل ثقافية عالمية تكسر الحصار الرمزي.
أخيرًا، الثقافة بوصفها جبهة ليست حلماً مثاليًا بل مسؤولية عملية. إنها دعوة إلى تأسيس عالمٍ رمزي بديل يُقاوم أدب التأميم الثقافي والهيمنة على الذهنية. إن تحويل الثقافة إلى فعل مقاوم يتطلب إرادة مجتمعية، استثمارًا مؤسسيًا، وضميرًا أخلاقيًا يدرك أن معركة الحضارة اليوم ليست فقط على حدود الأرض وإنما على حدود الذاكرة والخيال. إذا لم نصنع من الثقافة جبهة، سنبقى ندافع عن وجودٍ مادي آخذ في التآكل دون أن نواجه محاولات محوه الروحي والفكري. الثقافة إذن ليست مرفقًا في جدول الأولويات؛ إنها قلب المعركة، وبنقدها وابداعها تصمد الأمة وتستعيد كرامتها.
Leave a Reply