بدون ألوان: ”دموع على جدار الحرب“ (2-2)

صحيفة الهدف

وفي حفل عقد الجلاد الأسبوع الماضي، ومع بداية أغنية “حاجة آمنة اتصبري”، قال لي محدثي:
“ارحكاكا نحتو ورا، ما في حد شايفك، خلينا نفرغ طاقات الحرب السالبة الماليانا دي.”

و”نحتو” يقصد بها الرقص خلف مكان جلوس الجمهور.

قلت: “امشي انت حتو، أنا بحتو هنا في كرسيني ده.”

وحفل عقد الجلاد عمق إحساسنا بـ”الفقد” للوطن، وللطقوس السودانية، وللأهل، وللجيران، وللأصدقاء؛ وإحساس “الفقد” إحساس مرّ وقتال ومدمر.

وفي “إحساس الفقد”، قال المولى عز وجل في سورة القصص (9):
“وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ”، متحدثًا عن فقد سيدنا موسى عليه السلام.

واستخدم المولى عز وجل كلمة “الفؤاد” في الجزء الأول من الآية، والفؤاد تشريحيًا هو التجويف الذي يقبع داخله القلب، لكن المولى عز وجل عاد في الجزء الثاني من الآية ليستخدم كلمة “القلب” بدلًا عن “الفؤاد”، قائلاً: “لولا أن ربطنا على قلبها.”
في إشارة، بحسب المفسرين، إلى أن قلب أم موسى كاد أن يطير من التجويف الذي يقبع فيه بسبب فقد ابنها موسى، لولا أن ربط الله على قلبها بإلهامها نعمة الصبر. والربط هنا ربط معنوي وليس حسي؛ إذاً، هذا هو “إحساس الفقد” الذي يجعل القلب يطير من مكانه بحسب الوصف الرباني في سورة القصص.

وحرب الأفيال قتلت من قتلت وغرست أنصال مواجعها في من بقوا أحياء منها “فقدًا” لبعضهم البعض فالفقد توسع فتقه على الراتق؛ فقد الناس الأسرة، والعائلة، والأصدقاء، والجيران، والزملاء، وسيد الدكان، وسيد اللبن، وسيد الخضار، وآخرين شكلوا عظم المشهد الحياتي اليومي لنا جميعًا، وأكثر المتأثرين بالفقد، ممن ماتوا حسرة على الفقد، هم كبار السن.

حكى لي صديقي طارق، أول عام في الحرب، أن مسجدهم، ومع كل صلاة، كان يؤدي صلاة الجنازة لواحد أو اثنين من كبار السن ممن أجبرتهم الحرب على ترك ديارهم وأهلهم، وسكنهم، واللجوء إلى معسكر في مدرسة، سكنوا فيها وسط حفاوة وضيافة وكرم أهل المنطقة؛ إلا أن “خنجر الفقد” أعمل أنصاله في “أجسادهم”، فمات أغلبهم حسرةً وكمداً.

وقلت لصديقي، في حفل عقد الجلاد، إنني أفرغ الشحنات السالبة لحرب الأفيال بصورة راتبة، وأنني أحكي لأصدقائي أن الكيلومترات التي قطعتها سفرًا برًا، أو جوًا، أو على ظهر دابة بعد الحرب، لم أقطعها طوال حياتي، وأن “الدموع” التي ذرفتها ما بعد الحرب، إن جمعت، تعادل أضعاف الدموع التي ذرفتها قبل الحرب بثلاثة أو أربعة أضعاف.

والشهر الماضي، ظل أحد الطلاب يمر أمام مكتبي مرتين أو ثلاث، كأن في نفسه شيء، نهضت من مكتبي وناديته، دخل المكتب وقال:
“أنا حزين يا مستر أني مش ح أشوفك تاني.”

قلت: “ليه؟”

قال: “ح أنقل إلى مدينة أخرى.” ثم احتضنني وبكى قبل أن يكمل تفاصيل انتقاله تلك، بكيت معه كما لم أبكِ من قبل، فانا مثقل بتركة “الفقد” جراء حرب الأفيال؛ فقدت عائلتي التي تشتت كل واحد في بلد بسبب الحرب، فقدت أصدقائي الذين يمموا وجوههم شطر المنافي، وفقدت مجتمعي الصغير، وجيراني، وزملاء العمل، وفقدت طقس حياتي اليومي ما بين شمبات، وجامعة التقانة، وصحيفة الجريدة، وشارع النيل، وبشير للفول، وعبق أماكن كثيرة سكنت دواخلي لثلاثة عقود قضيتها في بحري.

وتلميذي يبكي، وكلانا يحمل “سمارت فون” به واتس آب، وفيس بوك، وتويتر، وإنستغرام، ويوتيوب، وكلانا في دولة واحدة، وهو ما يعزز فرضية أن “الفقد الجسدي”، وطقس التلاقي البشري، لا تعوضه ثورة المعلومات، ولا شبكات التواصل الاجتماعي، ولا أي مظهر آخر من مظاهر التلاقي الأسفيري.

أكاد أجزم أن أكثر ما أضر أهل السودان خلال هذه الحرب، بعد القتل وانتهاك الكرامة، هو “الفقد” الذي يجثم على صدورنا ليذكرنا بقبح الحرب، ويحرك كوامن مشاعرنا تجاه ممارسة طقس “البكاء الحار”، حتى تصل دموعك إلى أصابع رجليك من غزارتها، وقد لمست مدامعي أصبعي الأكبر وأنا وقوف غير ذي مرة، وشقت الدموع طريقها بين إصبع الرجل الكبير والذي يليه في شكل مجرى غير ذي مرة، كنت أظن أن تصل دموعك إلى رجليك وأنت وقوف مجرد مبالغة حكائيين تمامًا كالغول والعنقاء والخل الوفي، إلا أن تلمستها فعلاً، لا حكاية كحكايات ما قبل النوم و حكايا ألف ليلة وليلة و حكايا شهريار .

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.