ونحن أهل السودان “دموعنا قريبة”، وذلك ناتج عن نظام التربية عندنا وخصائص نظامنا الاجتماعي. فنحن شعب نعيش في عقد اجتماعي لا يوجد مثله في كل العالم: البيت الكبير الذي يضم الجد والجدة، والخيلان والخالات، والأعمام والعمات، وعلاقات متجذرة مع الجيران والأهل والأصدقاء وزملاء العمل. نتشارك الأفراح والأتراح، وبرش رمضان، وفطور الجمعة في الشارع.
كل هذه الخصائص رفعت من حس الارتباط الوجداني بين الفرد منا ومجموعة دوائر بشرية محيطة به: من أهل، وجيران، وأصدقاء، وزملاء عمل ودراسة.
هذا الحس الوجداني العالي أحاط شخصية السوداني بدواخل حساسة، متفاعلة جدياً وحسياً وحركياً مع كل هذه الدوائر تفاعلاً كبيراً وسع من دائرة “الحنية” داخل السوداني.
والدموع في الثقافة السودانية ليست علامة ضعف، بل رمز قوة وصدق ووفاء. و”بكاء الرجل” عند السودانيين لا يُعتبر ضعفاً بقدر ما هو دلالة على صدق ونبل العواطف.
“ارتحال”
ويبقى الوطن بحضنه المترامي هو المتكأ الوريف. مهما تعددت سوح الأسفار ومغرياتها، يظل الكل يوهم النفس بعيش كريم. وتبقى المعادلة ذاتها من “طوكيو” إلى “كاليفورنيا”، المعادلة التي تجعل كل الجنسيات سواسية في الارتحال كـ “أسنان المشط”: مال كثير، وبنون، ومن ثم كساء وعشاء ونوم. والنوم مقضوض المضاجع في أسرّة يحف جانبيها ريش النعام.
والوطن هوى وعشق، وأسرة وعائلة، وأرض وتراب ونيل، وخلّ وفيّ، وحكومة تدخل رأسها في التراب في الملمات كما النعامة تماماً.
تظل تهوى الوطن في “الحل” و”الترحال”. أو كما قال الدكتور مانع سعيد العتيبة في رائعته الحب الذي مات:
كأني ما عرفتك ذات يومٍ ***
ولا مارست حبك كالصلاة
ويبقى الوطن بعلاقتيه “الحالية والمحلية” كما صنفها أهل البلاغة. العتيبة يتحدث عن إحداها، وأزهري محمد علي يتغلغل في أعماق الأخرى حين قال:
شافت ثعالب بي لحى *** وبعض المقالب من جحا
والرشحوك هم شرحوك *** اكتب كتابك وانسحب
لتظل متلازمتي “الحالية والمحلية” محل تنازع داخلي.
“جمال الروح”
والجمال هو “جمال الروح”، و”الوجه الممتلئ بشراً يصعب عليه أن يكون حيواناً”، أو هكذا قال “أهل نيبون” كما وصفهم الراحل أنيس منصور في كتابه حول العالم في 200 يوم. اليابانيون لنا عودة لهم وقصة كفاح طويلة.
والمهم في “الوجوه” أنها تعكس ما في “القلوب” كالزجاج تماماً.
“تصادم الأكتاف”
“تصادم الأكتاف” ليس بسبب الازدحام، بل هو التقاتل من أجل العيش ولقمته في زمانات “حرب الأفيال”.
“قاع المدينة” يضج بحواديت كثيرة، وبعضها كما رأيناها في الحرافيش وزقاق المدق ونساء صعاليك لفيـفي عبده وسهير رمزي.
كيف يتحول “قاع المدينة” إلى “سطح المدينة”؟ المجتمع هو الوحيد القادر على قلب هذه المعادلة إن تم توجيهه، ليبدأ في عملية إيقاف “دبابات الحرب” و”حرب الدبابات”.
“أقدار”
“الأقدار تدع لنا الفرصة في أن نسير، لكن إلى حيث تريد هي”. عبارة زرعت جدلية التسيير والتخيير بين أئمة الصفين الثاني والثالث. وأدجار آلان بو، ساحر فرنسا، مثل نيكولاس كيدج، يمزج الدين بالواقع بالتجربة الحياتية الشخصية.
“ضمير”
“أسوأ ما في الحياة أن يموت شيء ما داخل الإنسان وهو ما زال حياً، الضمير أعني”.
اختلف القراء حول نسبها: هل هي لفيكتور هوجو أم لبيكاسو؟ وبيكاسو، الذي زعزع باقات الفنانين عندما قال: “الإبداع يبدأ بالتأمل”، نسي أن يضيف لهم: “كثرة التأمل تقود إلى الجنون”.
“تفوق”
“المشاهدة” خاصية يتمتع بها كل شخص. أما “المشاهدة والملاحظة” فيتمتع بها عدد قليل نوعاً ما من البشر. وأما “المشاهدة والملاحظة والاختزال والاستدعاء” فهي ما تميز الفنان – رساماً كان أو ممثلاً أو غيره – عن بقية بني جلدته.
إذن هي رباعية أهل الفن. وأنتوني هوبكنز يدخل البلاتوه بدون سكريبت ليمثل مشاهد فيلمه صمت الحملان. دهشت صحافة هوليود حينها، وحاورته فبرر هذا التفوق.
“الحملان” التي “صمتت” وقتها منحت البريطاني الأنيق أرفع جائزة سينمائية في العالم، ستملأ موائد العيد صخباً وضجيجاً.
“خيانة مشروعة”
ضحكت عندما شاهدت برومو فيلم “خيانة مشروعة ” قبل عدة أعوام، حيث لا شرعية للخيانة إلا في مخيلة كتاب المقاولات. فمهما كانت مبررات الخيانة، فهي فعل قبيح يدمي قلوب البشر. وحتى الحيوانات تترفع بنفسها عن هذا الفعل.
وذكر الثعلب، يدخل ببدلته الأنيقة ورباط عنقه الفرنسي ليقدم محاضرة لبني البشر عن هذا الفعل القبيح، وكيف يمارس هو الوفاء.
وما بين “محاضرة الثعلب” و”شعر قباني” تطل برأسها “رسالة من سيدة حاقدة” كما تخيلها نزار قباني:
لا تدخلي..
وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك..
وزعمت لي أن الرفاق أتوا إليك..
أهم الرفاق أتوا إليك
أم أن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك..
أني أراها في جوار الموقد
تخذت هنالك مقعدي..
في الركن ذات المقعد
وأراك تمنحها يداً مثلوجة ذات اليد..
ولسوف تجرعها كأساً كما جرعتني..
كأساً بها سممتني..
حتى إذا عادت إليك
لترود موعدها الهني..
أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك
وأضعت رونقها كما ضيعتني..
“عودة”
مكالمات مطولة من سودانيين من منافي الحرب المختلفة، بالداخل والخارج، تطالب بـ “بدون ألوان” يومياً. القارئ يقرأ ما يكتبه الكاتب ويتفاعل معه فرحاً وحزناً، والكاتب يكتب بآلام الناس وأوجاعهم لا بألمه هو، ليأتي إنتاجه ملامساً لواقع الناس.
وما بين الكاتب والقارئ مساحات من المحبة والمودة فوق حدود الخيال والوصف.
أحتفي جداً وأسعد بتواصل الأصدقاء القراء، وأضبط كل ساعاتي من أجل إسعادهم والاستجابة لمطالبهم.
“أخلاق الغابة” و”بل بس”
“شون مايكلز” و”جيف هاردي” سحرا جمهور التسعينات. ورغم صغر سنهما وقتذاك تمكنا من هزيمة أساطير أمثال “أندرتيكر” و”بروك ليسنر” و”كين”. والتاريخ أعاد نفسه مع صاحب القدمين “فين بالمر” الذي تنازل عن اللقب لدواعٍ مرضية بسبب ساعد أيمن مصاب. فتبقى الأخلاق تحكم حتى دنيا الغاب.
“المال”
المال يذهب ويعود، والصحة كذلك، إلا الشرف إذا ذهب لن يعود. لذا كان الحوار فوق مستوى إدراك بائعي الشرف، حين قال قباني:
لا تمتقع
هي كلمة عجلى
إني لأشعر أنني حبلى..
وصرخت كالملسوع بي كلا
سنمزق الطفلا
وأخذت تشتمني
وأردت تطردني
لا شيء يدهشني
فقد عهدتك دائماً نذلاً..
و بعثت بالخدام يدفعني
في وحشة الدرب
ليقول لي مولاه ليس هنا
مولاك الف هنا
لكنه جبنا
لما تأكد انني حبلى
فقام بدفع خمسين ليرة لها لتسكت وتبتعد عنه وتجهض حملها ذاك فقالت:
ليراتك الخمسون تضحكني
لمن النقود؟
لمن؟
لتجهضني؟
لتخيط لي كفني؟
أهذا إذن ثمني؟
ثمن الوفاء يا بؤرة العفن..
حسناً..
سأسقط ذلك الحملا
فأنا لا أريد له أباً نذلاً..
ويمضي قطار الوفاء عابراً حدود اللامكان واللازمان، يفقد إحدى مقطوراته مع إشراق كل صباح جديد، حاصداً أرواحاً، مخلفاً جثثاً، وهو يمضي إلى منتهى محطاته، بسائق وكمساري وكمسنجي وبعض من ركاب لم تلعب بعقولهم مفاتن الدنيا.

Leave a Reply