
د. هناء البشير محمد
#ملف_السلام_والمجتمع
يشهد السودان منذ استقلاله عام 1956 سلسلة من الأزمات السياسية والاجتماعية، تجلت في هشاشة الدولة، وفشل مشاريع التنمية، وانعدام التوافق حول هوية وطنية جامعة. وقد قادت هذه الأزمات إلى دورات متكررة من العنف والحروب الأهلية، كان آخرها الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، وما صاحبها من انهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الأزمة الإنسانية. في هذا السياق، يبرز خطاب دعاة السلام كاتجاهٍ أكاديمي ومجتمعي يرفض منطق الحرب والكراهية، ويؤكد أن الحل يكمن في العدالة الانتقالية، وبناء دولة القانون، وإعادة تأسيس العقد الاجتماعي على أسس مستدامة.
الأزمة البنيوية للدولة السودانية
يرى باحثون مثل محمد أبو القاسم حاج حمد (1991) وفرانسيس دينغ (1995) أن أزمة السودان تكمن في فشل بناء الدولة الوطنية الحديثة، وضعف المؤسسات التعليمية والتنموية، الأمر الذي أنتج هشاشة بنيوية انعكست في قابلية المجتمع للعنف والتفكك. ويُضاف إلى ذلك الإقصاء السياسي والتهميش الاقتصادي لمناطق الأطراف، ما جعل الحرب أداةً متكررة للتعبير عن المظالم.
وفقاً لنظرية الدولة الهشة (Rotberg, 2004)، فإن السودان يمثل نموذجاً للدولة التي تعجز عن أداء وظائفها الأساسية: توفير الأمن، والعدالة، والخدمات. هذا الفشل البنيوي أدى إلى ظهور فاعلين مسلحين مثل مليشيات الجنجويد، وكذلك إعادة إنتاج منظومات الاستبداد كالإسلاميين (الكيزان)، حيث يصبح العنف هو النتيجة الطبيعية لانهيار العقد الاجتماعي.
دعاة السلام في السودان لا ينطلقون من إنكار الجرائم أو تبريرها، بل من فهم أعمق لطبيعة الأزمة. فهم يعتبرون أن الجنجويد، كما الكيزان، هم نتاج لخلل هيكلي في بناء الدولة ونظام التعليم، وليسوا مجرد “أشرار معزولين”. من هنا، فإن التعامل معهم عبر خطاب الكراهية لن يقود إلا إلى إعادة إنتاج العنف.
وهذا يتقاطع مع ما يطرحه جون بول ليدراخ (1997) في مفهوم بناء السلام التحويلي (Transformative Peacebuilding)، الذي يركز على معالجة الجذور البنيوية للصراع: الفقر، والتهميش، وانعدام العدالة. فبناء السلام لا يتحقق بمجرد وقف إطلاق النار، بل بإعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية والسياسية على أسس العدالة والمساواة.
العدالة الانتقالية كإطار جامع
العدالة الانتقالية تمثل المدخل النظري والعملي لتجاوز دوائر الانتقام. وهي تقوم على أربعة ركائز أساسية: الحقيقة، والمحاسبة، وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار. في الحالة السودانية، يمكن لهذه الآلية أن تعالج جرائم الحرب والانتهاكات، دون أن تتحول إلى أداة للانتقام أو لتصفية الخصومات السياسية.
وهنا لا يعني تبني العدالة الانتقالية إنكار الجرائم، بل الاعتراف بها وتحميل المسؤولية، لكن ضمن مشروع وطني يسعى لبناء دولة القانون. وهو ما يتماشى مع مقاربة برانشيك (2010) التي ترى أن العدالة الانتقالية هي “جسر بين ماضي الانتهاكات ومستقبل الديمقراطية”.
نحو دولة التنمية المستدامة
السلام الحقيقي لن يتحقق فقط بالمصالحة السياسية، بل بتبني نموذج تنموي عادل يعالج جذور التهميش. وفقاً لأهداف التنمية المستدامة (الأمم المتحدة، 2015)، فإن العدالة، والمساواة، والتعليم الجيد هي ركائز لبناء مجتمعات آمنة. في السودان، فإن إصلاح التعليم، وإعادة توزيع الموارد، وتمكين الشباب والنساء، هي عناصر أساسية لضمان أن الحرب لا تعود مرة أخرى.
إن خطاب دعاة السلام في السودان لا يتجاهل المآسي والجرائم، لكنه يرفض الانجرار وراء دائرة الكراهية والانتقام. فالمطلوب ليس إنتاج مزيد من المجرمين والضحايا، بل بناء دولة العدالة الانتقالية والتنمية المستدامة، حيث تُعالج جذور الأزمة، ويُعاد تأسيس العقد الاجتماعي على أسس المواطنة والقانون. بهذا فقط يمكن تحويل الألم الجماعي إلى طاقة بنّاءة لبناء مستقبل جديد.
Leave a Reply