
بقلم: د. يوسف آدم الضي
وزير الحكم الاتحادي الأسبق
المقدمة:
بينما تدخل بلادنا عامها الثالث من حرب عبثية أحرقت الأخضر واليابس، وحطَّمت ما شُيّد عبر عقود، وأغرقت الوطن في بحر من الدماء والتشرد والنزوح والانقسام القبلي والجهوي، يطل علينا وزير العدل الأسبق نصر الدين عبد الباري بمقال يدافع فيه عن إمكانية التطبيع مع الكيان الصهيوني. وكأن (إسرائيل)، المحتل الغاصب الذي يُحاكَم اليوم أمام محكمة العدل الدولية بجرائم الإبادة، يمكن أن تكون حاملة لمشروع ديمقراطي أو شريكاً في الحرية.
يقدِّم عبد الباري التطبيع كما لو كان طوق نجاة للتحول الديمقراطي، متعامياً عن حقيقة إسرائيل كقوة احتلال منبوذة عالمياً، ومتجاهلاً إرادة الشعب السوداني الذي قدَّم مواقف تاريخية في دعم القضية الفلسطينية.
يأتي حديث عبد الباري في لحظة تشهد فيها (إسرائيل) عزلة متنامية على الساحة الدولية، إذ تتعرض للمقاطعة والطرد حتى من ميادين الرياضة، بينما يصدح برلمانيون ومفكرون وفنانون في الغرب بفضح ممارساتها الإرهابية ضد فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، وجرائمها التاريخية في العراق. ومع ذلك، يخرج علينا (عرّاب التطبيع) محاولاً تجميل صورة هذا الكيان، بل متجاوزاً ذلك إلى لعب دور (وكيل حصري) يدافع عن أمنه القومي، في مشهد يكشف حجم الارتباط بالأجندات الخارجية وتغليبها على المصلحة الوطنية.
أولاً: دوافع التوقيت ومفارقات الطرح:
السؤال المركزي: ما الذي يدفع عبد الباري لإحياء ملف التطبيع الآن؟
- هل هو دفع مباشر من الكيان الصهيوني؟
- أم استباق لمعادلات ما بعد الحرب؟
- أم هو مجرد محاولة لإعادة تسويق نفسه سياسياً عبر إحياء ما يسميه (مكاسب الفترة الانتقالية)؟
إن توقيت هذا الطرح يثير الريبة: فبينما تُحاكم إسرائيل أخلاقياً وسياسياً في العالم بسبب جرائم الإبادة في غزة، يطل عبد الباري مدافعاً عنها ومقدِّماً نفسه وكيلاً لمصالحها في السودان. فما الدوافع وراء هذا المقال، وما مدى صدقية ما طرحه؟ أياً كان السبب، فإن المقال يعكس مسعىً لتضليل الرأي العام عبر تصوير التطبيع كمدخل للتحول الديمقراطي، بينما الحقيقة أن فاقد الشيء لا يعطيه.
ثانياً: التطبيع في سياقه السياسي:
مهّد الفريق عبد الفتاح البرهان لهذا المسار حين التقى بنيامين نتنياهو في عنتيبي بأوغندا في فبراير 2020 دون اختصاص أو تفويض دستوري. وفي 23 أكتوبر 2020 تم ترتيب مكالمة هاتفية شارك فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والبرهان، وحمدوك، ونتنياهو. تم ذلك في غياب معظم الوزراء، وبمعرفة عبد الباري الذي لعب دوراً محورياً في تمرير الخطوة.
وفي 13 يناير 2021، وقَّع عبد الباري بنفسه على (اتفاقات أبراهام) في الخرطوم، رغم أن هذا التوقيع لم يحظَ بمصادقة مجلس الوزراء أو أي تفويض شعبي. وبعدها أُلغي قانون مقاطعة إسرائيل الصادر عام 1958، في خطوة أخرى لم تمر عبر المؤسسات الدستورية بشكل روتيني وطبيعي.
هذه الوقائع تكشف أن ما جرى لم يكن قراراً سيادياً للشعب السوداني، بل مساراً فُرِض من فوق لصالح أجندة إقليمية ودولية.
ثالثاً: الرد على مغالطات عبد الباري:
وذلك من خلال المحاور التالية:
- إعلان التطبيع (23 أكتوبر 2020): يقول عبد الباري إن السودان و(إسرائيل) أعلنا عزمهما على تطبيع العلاقات بينهما من خلال اتصال مرئي شارك فيه الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء حمدوك. الحقيقة أن مجلس الوزراء، عقب لقاء عنتيبي، اتخذ موقفاً رسمياً من خلال اجتماع طارئ دُعي له رئيس الوزراء هو الأول من نوعه. أكد الوزراء فيه على أن قضية التطبيع لا تدخل ضمن صلاحيات حكومة انتقالية بل تُحال لبرلمان منتخب. وقد خرج الاجتماع بثلاثة مقررات واضحة:
أ. رفض اللقاء وعدم الاعتراف به، والتأكيد أن البرهان غير مفوض في هذا الشأن.
ب. اعتبار ملف العلاقات الخارجية من صلاحيات مجلس الوزراء فقط، وأن التطبيع يظل قضية يبتّ فيها برلمان منتخب.
ت. التأكيد على موقف شعبنا الداعم للقضية الفلسطينية والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الموقف عكس احتراماً لإرادة الشارع والقضية الفلسطينية.. وعندما رُفع الأمر لاجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء، حاول البرهان عرقلته وصرّح غاضباً: “عشان خاطر حزب واحد هو البعث العربي الاشتراكي؟ ولو كانت مصلحة شعبنا عند الشيطان لذهبت إليه”. وهو موقف كشف في وقت مبكر تورط البرهان ومحاولته السعي قدماً في هذا الاتجاه رغم انعقاد الاجتماع وإجازة مقررات اجتماع مجلس الوزراء.
- اتفاقات أبراهام (13 يناير 2021): وقَّع عبد الباري شخصياً على الاتفاقيات، مدّعياً أنها باسم السودان. لكن الحقيقة أنها لم تمر عبر مؤسسات الحكم ولا صادق عليها مجلس الوزراء. كانت توقيعات فردية تحت ضغط دوائر مرتبطة بالبرهان. والاتفاقيات نفسها ليست إلا أداة في مشروع (إسرائيل الكبرى)، تُستخدم لابتزاز الدول وإخضاعها بسياسة العصا والجزرة. لم تُعرض الاتفاقيات على مجلس الوزراء أو المؤسسات التشريعية. وهي اتفاقيات فضفاضة تُستخدم كأداة إسرائيلية لفرض مشروع (الشرق الأوسط الكبير)، وتوظيف السودان كحلقة جديدة في سلسلة التبعية.
- إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل (1958): يقول عبد الباري إن السودان ألغى هذا القانون. والواقع أن ما جرى لم يكن سوى تمرير متعجّل في اجتماع المجلسين دون المرور بالمسار التشريعي الصحيح. لم يُعرض القانون على مجلس الوزراء ولم تتم مداولته بالطرق الرسمية. والدليل كذلك أن بعض الأعضاء، مثل البروفيسور صديق تاور، لم يُبلّغوا بالاجتماع أصلاً. هذا يعكس غياب الشفافية وتجاوز روح الوثيقة الدستورية.
وهنا يُطرح السؤال: لمصلحة مَن يُلغى قرار شعبي تاريخي ظلّ علامة على موقف السودان القومي؟ وهل انتفت مبررات المقاطعة؟ وهل نسي عبد الباري أن شعار إسرائيل التوسعي في الكنيست ما زال ينص على: “حدودك يا (إسرائيل) من الفرات إلى النيل”؟ فأين يقع هذا النيل إن لم يكن في قلب السودان؟
رابعاً: الموقف الشعبي والسياسي:
لم يكن الشعب السوداني صامتاً. فقد عبَّرت قوى الثورة عن رفضها بوضوح:
- وزيرة الخارجية مريم الصادق قالت إن الاتفاق غير مكتمل ولا أثر قانوني له.
- وزير الإعلام فيصل محمد صالح أكد أن الحكومة غير مفوضة لمثل هذه القرارات.
- المؤتمر الشعبي، الحزب الشيوعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي أصدروا بيانات تنديد، معتبرين الخطوة خيانة لإرادة الشعب وتاريخه القومي، خصوصاً أن أبناء السودان شاركوا في الحروب العربية ضد إسرائيل دفاعاً عن فلسطين.
خامساً: التجارب العربية ومصيرها:
روَّج عبد الباري لفوائد مزعومة من التطبيع، كالحصول على تكنولوجيا وزراعة وأمن. لكن تجارب الدول العربية التي طبعت تؤكد العكس:
- الأردن، بعد سنوات طويلة من اتفاقية وادي عربة، لم يجنِ سوى الخيبة. أحد نوابه صرّح بمرارة أن إسرائيل لم تقدِّم لهم سوى السياحة واستغلال المرافق، بينما لم تستثمر دولاراً واحداً.
- مصر، بعد “كامب ديفيد”، ظلت تعاني اختراقات أمنية واقتصادية دون عوائد حقيقية لشعبها.
إذن، ما يقدِّمه عبد الباري ليس سوى بيع للوهم وترديد لدعاية مفضوحة.
سادساً: السياق الدولي:
عبد الباري يتحدث عن إسرائيل كأنها دولة ديمقراطية يمكن أن تدعم التحول الديمقراطي في السودان. لكن كيف يمكن لكيان يُحاكم اليوم أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية أن يمنح الآخرين ديمقراطية؟ (إسرائيل) لم تدعم سوى الانقلابات والأنظمة الاستبدادية التي توفر لها مكاسب أمنية. وهي الدولة الوحيدة التي سارعت إلى دعم انقلاب (25 أكتوبر 2021)، بينما رفضه الشارع السوداني والمجتمع الدولي.
الخاتمة:
إن محاولة عبد الباري اليوم لإعادة تسويق التطبيع الذي لم يتم أصلاً كما أكد هو ذلك وما أسماها بالخطوة المهمة التي كانت ثم يتم التوقيع عليها في نوفمبر 2021 لولا انقلاب البرهان في أكتوبر من نفس العام لا تختلف عن محاولات البرهان من قبل: وهي مجرد رغبة أفراد لا يمثلون إلا أنفسهم عبر خطوات وإجراءات مرفوضة من الشعب، لأنها تخدم أجندة غريبة عن تاريخه ووعيه. لقد دفع شعبنا ثمناً باهظاً للحرب والانقسام، لكنه يظل متمسكاً بمواقفه الأصيلة:
- رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
- التمسك بدعم فلسطين وقضيتها العادلة.
-
الحفاظ على سيادة السودان وحق شعبه في تقرير مصيره بعيداً عن الوصاية.
وعليه، فإن ما يطرحه (عرّاب التطبيع) ليس إلا سمسرة سياسية مدفوعة الثمن. أما الشعب السوداني، الذي خَبِر خيانة إسرائيل في انفصال الجنوب وجرائمها المتكررة ضد أمنه القومي، فلن يسمح بإعادة إنتاج التبعية تحت مسمى (التحول الديمقراطي). إنها معركة بين إرادة شعب أصيل ووكالة سياسية رخيصة، ولن يكون النصر إلا للشعب.
Leave a Reply