الحرب في السودان وتشظّي الذاكرة الجماعية.. كيف تُفكِّك الحربُ الوعي قبل أن تقتل الجسد؟

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#آراء_حرة

في الأزمنة التي تنهار فيها الخرائط، وتُترك المدن بلا أسماء، تصبح الحرب أكثر من فعلٍ عسكري؛ تتحوّل إلى جائحةٍ وجودية، لا تقصف فقط الحجر، بل الذاكرة. لا تحرق فقط المكتبات، بل تُطفئ الأسئلة في العقول. الحرب في السودان ليست مجرّد نزاعٍ على السلطة، بل شكلٌ من (العدمية المؤسّسة)، تُسحق من خلالها بنية المعنى، ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي تحت أنقاض اللغة والمعرفة والانتماء.
ليست الحرب فقط ما يُرى من انفجارات ودخان. إنها تفكيكٌ بطيء للذاكرة، وإعادة برمجة للزمن. في السودان، كانت دار الوثائق القومية، بأرشيفها الممتد منذ القرن التاسع عشر، شاهدةً على صراع الذاكرة مع النسيان. وعندما احترقت في الخرطوم، لم يكن ذلك فقط احتراقًا لأوراق، بل احتراقًا لإمكانية السرد، لضبط التاريخ، لترميم المعنى.
(12) جامعة حكومية تحوّلت إلى ثكنات عسكرية أو مراكز نزوح، وكأن المعرفة نفسها أصبحت عدوًا، تستحق أن تُجتث من جذورها. أكثر من (45%) من أعضاء هيئة التدريس غادروا الوطن، هاربين من موتٍ معلن، لتُضاف (هجرة العقل) إلى قائمة النزوح الجغرافي. في هذه اللحظة، لم تعد الجامعات مجرد مؤسسات، بل جبهات صامتة في حرب لا صوت لها.
في فلسفة العنف، يكون قتل الطفل كفكرة أخطر من قتله كجسد. حين تتوقف (70%) من المدارس عن العمل، فليس ذلك خللًا إداريًا، بل فعلًا منظّمًا لقطع السلسلة التاريخية بين الأجيال. هنا، لم يكن التعليم ضحية جانبية؛ بل هدفًا استراتيجيًا. المناهج تحوّلت إلى منصات تصفية، يُعاد عبرها رسم الوعي الوطني وفق مقاسات الطائفة والسلاح.
ذاكرة الوطن ليست فقط ما يُكتب في الكتب، بل ما يُحكى في الأزقة، ما يُرسم على الجدران، ما يُحتفل به في الأعياد. وعندما يُنهب متحف السودان القومي، وتُسرق تماثيل حضارة كرمة، فإن الزمن نفسه يُعرّى من عمقه. تُختزل الهوية إلى حاضرٍ مشوّه، ويتحوّل التاريخ إلى متحف بلا أبواب، أو أسوأ، إلى (فراغ وظيفي) يمكن ملؤه بأية سردية عنصرية أو غيبية أو دعائية.
في هذا السياق، تصبح وسائل التواصل الاجتماعي أدوات تهديم لا تواصل؛ تُزرع الروايات المتطرّفة كما تُزرع الألغام. ما يُنهَب ليس فقط الوعي، بل المعنى ذاته.
منذ بداية الحرب، تم اغتيال أكثر من (27) باحثًا ومثقفًا. ولكن الأخطر من القتل، هو التكميم الداخلي: حيث تتفشّى الرقابة الذاتية، ويصير الصمت شكلًا من النجاة. اتحاد الكتّاب السودانيين، وبيوت الثقافة، والمجلات الفكرية… كلها انهارت أو تآكلت أو صُمِتت. لم يعد السؤال (من يتكلم؟) بل (من يجرؤ على التفكير).
وسط هذا الركام، لا تزال هناك بذور تنبت. شبابٌ يوثّقون الذاكرة من خلال أرشيفات رقمية، وأساتذة يعيدون تدريس الفلسفة في منازل لا يصلها ضوء، ومبادرات تعليمية تظهر في المعسكرات بلا تمويل. هي مقاومة من نوع آخر: مقاومة ضد النسيان، ضد الاستبدال، ضد انقراض السؤال. هذه ليست بطولات فردية؛ بل علامات على أن المجتمع لم يمت، بل يُقاوم على مستوى الخيال، والمعنى، واللغة.
ما تدمّره الحرب لا يُرمّم بالخرسانة فقط، بل بالأسئلة، وبالتعليم، وبالحبكة التي تعيد تشكيل سردية الوطن. ولذا فإن ما يحتاجه السودان ليس فقط إعمار الطرق، بل بناء سردية وطنية جديدة؛ سردية لا تُقصي، لا تختزل، بل تُراكم وتُدمج وتُصالح دون أن تُبيّض الجرائم أو تُبرّر النكبات.

إعادة بناء الذاكرة الجماعية تتطلب:
• إعادة أرشفة الوعي، من خلال جمع الوثائق، الشهادات، الصور، الأصوات، وإعادة تدويرها في سرديات شاملة لا انتقائية.
• إعلان (التعليم منطقة محرّمة) في أي صراع/ مثلما تحمي المعاهدات الدولية المستشفيات، يجب أن تُحمى المدارس والجامعات.
• حماية المجال الثقافي من الأدلجة الفجّة، خيث يجب أن يُصبح (المثقف الحر) هو قلب أي مشروع سياسي جديد، لا ديكوره الخارجي.

إن ما يحدث في السودان لا يمكن قراءته كأزمة داخلية معزولة؛ بل كجُرحٍ نازف في الجسد العربي الواحد، وكعلامة على مأزق حضاري أعمق. فالسودان، بتعدديته الجغرافية والثقافية، كان — ولا يزال — مختبرًا حيًا لفكرة الأمة العربية بوصفها مشروعًا لا يقوم على التجانس الصنمي، بل على التعدد الخلّاق ضمن وحدة المصير. تدمير المعرفة في السودان، هو تدمير لإمكانٍ كان يمكن أن يكون ركيزة في النهضة، ومحوٌ لإحدى (الذاكرات الكفاحية) التي توازي فلسطين، والعراق، وسوريا، والجزائر والمغرب العربي . لذلك، فإن معركة السودان ليست فقط معركته، بل معركة العقل العربي الذي يُذبح حين يُقصى التنوع، وتُستبدل المؤسسات الثقافية بمنصات الاحتراب، ويُحوَّل التاريخ من مُحرّك نهضوي إلى أداة شحن طائفي.

إن ما يُدمَّر في السودان، هو حلقة في سلسلة الاستهداف الشامل لكل مقومات المشروع القومي، من المدرسة إلى المتحف، من النص إلى الإنسان. وإذا لم يُنظر إلى إعادة بناء السودان كجزء من إعادة ترميم الفكرة العربية ذاتها، فإن (النهضة) ستظل شعارًا مُعلّقًا فوق ركامٍ لم يُزال بعد. فالذاكرة القومية لا تتجزأ، وسقوط مكتبة في الخرطوم، هو سقوطُ جدارٍ في بيتِ الأمة العربية الكبير.
في النهاية، لا تنتهي الحروب بإعلان وقف إطلاق النار، بل حين تعود العقول لتفكّر بحرية، والأطفال ليطرحوا أسئلتهم دون خوف، والمثقفون ليكتبوا دون رقابة. لذلك، فإن سؤال السودان ما بعد الحرب ليس (من يحكم؟) بل (كيف نُعيد التفكير؟). العمل على وقف الحرب اللعينة، وبناء الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.