ما لان فرسان لنا: عن دروس الكرامة لا الانتصار

صحيفة الهدف

محمد شريف

#ملف_الهدف_الثقافي

في سجلات التاريخ، غالبًا ما تحتل الانتصارات صفحاتها الذهبية، وتُخلّد في ذاكرة الشعوب كأزمنة مجد وعظمة. لكن ماذا لو نظرنا إلى الجانب الآخر من العملة؟ إلى الهزائم، التي لم تكن مجرد نهاية، بل بداية لقصة جديدة من الكرامة والإصرار. إن الهزيمة، التي تُخاض بشرف، لا تصبح درسًا في الضعف، بل تُعيد تعريف البطولة، وتُغذي الوجدان بملحمة لا تموت. فالشعوب لا تعيش فقط على صدى الانتصارات، بل على القصص، التي تُعلّمها كيف تنهض من تحت الرماد، وكيف تُحوّل الفشل إلى نصر رمزي.

خذ كمثال معركة كرري في السودان: الأنصار حينها لم يكونوا يطمحون إلى نصر عسكري بالمعنى المألوف، بل خاضوا المواجهة دفاعًا عن الكرامة والمبادئ. ورغم قسوة الهزيمة عسكريًا، إلا أنها تحولت إلى رمز للمقاومة في الوجدان السوداني، وارتبطت في المخيلة الشعبية بالشعر والرواية الشفوية، التي رسخت الشجاعة والصمود، لتغدو ذاكرة ملهمة للأجيال المتعاقبة.

وفي أوروبا، تمثل معركة ووترلو نهاية عهد نابليون بونابرت. رغم أن الهزيمة كانت قاطعة، إلا أن إرث نابليون لم يُمحَ، بل تغلغل في الأدب والفن الأوروبيين. على سبيل المثال، أفرد فيكتور هوجو فصلًا كاملًا في “البؤساء” لوصف معاناة الأفراد في خضم الحدث التاريخي، بينما قدم ستندال عبر “شارترهاوس بارما” رؤية مختلفة للمعركة من خلال عيون شاب يجهل دوافع الصراع، في إشارة إلى عبثية الحرب.

أما في السياق الأمريكي، فمعركة الألامو سنة 1836 تقدم نموذجًا آخر. فبرغم الهزيمة الساحقة للمدافعين التكساسيين، ألهمت قصتهم حركة الاستقلال، وتحولت إلى رمز للإصرار على الحرية. شعار “تذكروا الألامو!” صار جزءًا من الذاكرة الأدبية والسينمائية الأمريكية، وغدت هذه اللحظة التاريخية مرجعًا ثقافيًا يتكرر استحضاره. ربما يكون تأثير الألامو في السينما أكبر من الأدب، حيث تم إنتاج العديد من الأفلام، التي خلدت قصة الحصار، أشهرها فيلم “الألامو” عام 1960 من بطولة جون واين وفيلم عام 2004 من بطولة دينيس كويد.

وربما المثال الأكثر عمقًا هو ملحمة كربلاء سنة 61 هـ، حين واجه الإمام الحسين وأنصاره مصيرهم من أجل مبدأ العدالة والكرامة. الهزيمة العسكرية هنا لم تُنقص من رمزية الحدث، بل زادته خلودًا، فغدت كربلاء رمزًا للتضحية ورفض الظلم، وامتدت آثارها إلى الأدب والشعر، سواء في “مقتل أبي مخنف” أو في قصائد الجواهري وغيرهم من الشعراء.

إن هذه الهزائم، عند التأمل، لم تكن نهايات قاطعة بقدر ما كانت بدايات لتحولات عميقة في الوعي الجمعي. لقد أصبح الفشل العسكري بذرة لملحمة رمزية، وغدت الهزيمة درسًا في الكرامة والشرف، وذاكرة حية تذكرنا بأن العظمة ليست حكرًا على أوقات النصر، بل تتجلى أحيانًا في طريقة مواجهة المصير والدفاع عن المبادئ.

بالمقابل هناك أعمال لم تسبغ على الفشل هالة رومانسية ولم تمجده، لكنها تعترف به كشرط ضروري للوعي.

عقب النكبة عام 1948 ثم أحداث 1967، شهد الأدب الفلسطيني تحولات جوهرية في وظيفته ودلالاته. لم يعد النص الأدبي مجرد مساحة جمالية أو ترف ثقافي، بل أصبح فعل مقاومة حقيقي ومركزي في معركة إثبات الوجود في مواجهة التشريد والضياع.

من النماذج البارزة: “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، التي ترمز إلى الخيبة والخذلان من خلال مأساة الفلسطينيين، الذين يموتون في صهريج شاحنة أثناء محاولة الهرب. أما “صراخ في ليل طويل” لجبرا إبراهيم جبرا، فتعكس فكرة البقاء عبر السرد نفسه، حيث يصبح الفعل الكتابي دليلاً على استمرار الوجود.

بعد عام 1967، تصاعد الإحباط، وأصبحت الرواية الفلسطينية أكثر التصاقًا بتجربة الصراع الوجودي بين الفرد وقوى خارجية جبارة، وهو ما يوازي تطورات الأدب المصري في الفترة ذاتها. كما وصف غالي شكري، تحولت الكتابة ذاتها إلى “فعل مقاومة” وإلى وسيلة لقول الحاضر بلغة تاريخية دقيقة.

“ملجأ العامرية” هو الحدث، الذي ألهم العديد من الأعمال الأدبية والشعرية العراقية. في عام 1991، وتحديدًا ، استُهدف ملجأ مدني في حي العامرية ببغداد بقصف أمريكي، مما أدى إلى مقتل مئات المدنيين، الذين كانوا يحتمون فيه.

لقد أثّر هذا الحدث بعمق في الوجدان العراقي، وتحوّل إلى موضوع رئيسي في الأدب، من أشهر هذه الأعمال قصيدة “رؤيا ملجأ العامرية” للشاعر العراقي حميد سعيد. هذه القصيدة تُعدّ ملحمة حداثية، فهي لا تكتفي بوصف الحدث بشكل مباشر، بل تربطه بأساطير العراق القديمة وتاريخه، وتستدعي رموزًا من التراث البابلي والسومري، مثل الإلهة إنانا، لتعكس مأساة الدمار والموت المستمرة في تاريخ العراق.

أما في الأدب العراقي بعد العدوان الثلاثيني والاحتلال الأمريكي 2003 ، صار الأدب يوثق انهيار الدولة، وتفشي الطائفية، وتجليات العنف والعبث،  غابت مفردات البطولة والمجد، وبرزت مكانها مواجهة مع اللامعقول والدمار.

في هذا السياق، ظهرت موجة من الأدب العراقي، الذي يتعامل مع الصدمة الجماعية؛ مثل روايات أحمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد)، التي تدمج الفانتازيا بالرعب السياسي، أو نصوص فاضل العزاوي، التي تتأمل الخراب الوجودي.

بصورة عامة، لم يعد الأدب الفلسطيني أو العراقي بعد هذه التحولات التاريخية مجرد انعكاس للواقع، بل تحول إلى مساحة نضال سردي ومعرفي، حيث يشتبك الفرد والجماعة مع أسئلة المصير والمعنى في زمن الأزمات.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.