يوم خريفي

صحيفة الهدف

             ( 1 )

عبد العزيز الهشابة

#ملف_الهدف_الثقافي

دومًا نتأمل الماضي ونعيش في داخله هروبًا من واقعنا الموجع.. نستحضر لحظاته الجميلة وفكاهات أهله الطيبون… فحقيقة أن الإنسان لا يحس بالنعمة إلا بعد أن يفتقدها… نعم، حينها لم نكن ندري أن الزمان سيكون ماضيه أفضل من حاضره وذكرياته أمتع من واقعه…. هي مجموعة من الصور تحتشد الآن أمام ناظري فلا أعرف أيها أختار لأجعلها موضوع ذكرياتي هذه، فجميعها جميلة وأحن إليها، فتنقلني عبر الزمان للحظات رائعة وأناس أروع.. حسنا، سأختار صورًا تعجبكم.. وذكريات تعيشونها معي متطابقة تمامًا مع ذكرياتكم أينما كنتم… فكل القرى والفرقان في بلادي تتشابه، فحياة الناس تتطابق بدرجة مذهلة والشخوص البارزة تتكرر. فأبو خمج في الهشابة تجد له مثيلًا في كل القرى، رجل قصير، وبرغم أميته إلا أنه يسعى دومًا لتطوير حياته وإبراز شخصيته عبر تصديه للناس والتصدي لكل الأحداث صغيرها وكبيرها، فتجده في بيوت العزاء بكامل هندامه الجلابية والعمة والمركوب والقرجة، متصدرًا المجلس يحكي للناس كيف أنه ذهب للمفتش الزراعي ليخبره بأن الماء ما جاءهم، وأن تيرابهم في الأرض أكمل الأسبوع ودايرين الماء عشان البوقة، وهي الشربة الأولى للمحصول.. وكيف أن المفتش اتصل أمامه على ناس الري، وألزمهم بفتح بوابات الكنار بأسرع ما يمكن، وكيف استجاب العاملون في الري لهذا الأمر.. وكيف شرب المشروع أيضًا يحدثك عن ذهابهم في الجودية لفلان، وكيف أنه استطاع أن يقنع الطرفين بضرورة الصلح، وكيف تم هذا الصلح وحقن الدماء أيضًا هناك.. موسى ود جاد الله.. وود الجبارة.. وود الجردة.. محمد النقونقو والجمل.. كل تلك الأشخاص يربط بينهم رابط واحد، في كل القرى تجد من يشبههم.. فهم أناس لا تعنيهم حياة الناس، يعيشون حياة مختلفة.. يسيرون لوحدهم بملابسهم الرثة المتسخة.. يحملون على ظهورهم مخالي، شنط من القماش الدمورية أو الصوف أو من جوالات البلاستيك، متنقلين من مكان لآخر بين القرى والفرقان، منتفخة لا أحد يعلم ما بداخلها، ويتحدثون حديثًا بكلمات مبهمة ليس لها علاقة بالواقع، فيعتقد الناس في صلاحهم وتنسج حولهم الأساطير، فمنهم من يقسم أن فلان رأىهم في الحرم المكي، ومنهم من يقول لك أنه تركه في مريحلة، وحين ذهب إلى القنوبة وجده أمامه من غير أن يأتي بعربة، ومجموعة من الكرامات، التي يتطوع عدد من الناس في ذكرها.. ولذلك يتحاشى الناس غضبهم. أيضًا من الشخوص المتطابقة في كل القرى تلك المرأة المسترجلة (الضكرية) ،التي لا تخشى الرجال، فتجدها تصول وتجول بين الرجال، تتصدى لهم وتقف في وجوههم، تدافع عن حقها وتأخذه عنوة، والجميع يخشاها، فهي فاحشة في حديثها، تحفظ عن ظهر عيوب كل الناس، فما أن تقع في شركها تخرج لك المتخبي القديم والجديد وتذكرك بماضيك وتعيرك بالذي فيك والما فيك، لذلك الكل يعمل لها الف حساب ويتوددون لها. أيضًا من الشخوص البارزة في تلك المجتمعات المؤذن في الجامع، تجد جميع المؤذنين من الذين تاب الله عليهم بعد أن كان لهم ماض حافل بالمعاصي، فمن تاب تاب الله عليه. لكل ذلك اخترت أن أحدثكم عن يوم خريفي، فقد كان النهار غائظًا ومجموعة من السحب تتجمع هنا وهناك، والكل ينظر إلى السماء ويمني نفسه بهطول مطرة تبرد هذا الجو

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.