“قمت من بيتنا ومشيت”

صحيفة الهدف

حمدي صلاح الدين

أحب الاستماع لعقد الجلاد منذ زمن طويل. أول حفل حضرته لهم كان وأنا طالب بالثانوي في مدينة سنار. أتذكّر أن الحفل أقيم في نادي الشعلة – سنار، ضمن فعاليات “معرض المليون كتاب” الذي دأبت دار النشر بجامعة الخرطوم على تنظيمه سنوياً بالمدينة لمدة شهر، تُقدَّم فيه الكتب بأسعار رمزية. وكانت تلك فرصة كبيرة لنا لاقتناء كتب كثيرة كل عام.

كنّا نشتري الكتب بربع ثمنها تقريباً في تلك الفترة؛ كتب متنوعة، فخمة الطباعة، ومفيدة في عمرنا ذاك. وكانت الجامعة بالتعاون مع النادي تنظّم أربع حفلات خلال فترة المعرض (كل خميس حفل)، وكانت عقد الجلاد حاضرة في آخر خميس للمعرض.

تواصلت متابعتي لعقد الجلاد في أيام الجامعة وما بعدها، وحضرت حفلاتهم في “عبود” مع الأحباب الأستاذ طارق الملك والدكتور محمد أزهري.

وأمس، وبإلحاح كبير من الصديق هاشم الشريف، لبيت دعوته لحضور حفل عقد الجلاد بعد انقطاع سنوات عن حضور الحفلات.

المكان كان ضيقاً، والمسرح صغير الحجم، لكن الحضور الطاغي لعقد الجلاد غطّى على “ضيق المكان” و”صغر حجم المسرح” . أمس تألّق شريف بصورة لافتة للأنظار، وأعتقد أن عقد الجلاد لم تغنِّ بعد الحرب بهذا المزاج العالي كما غنّت بالأمس.

اسم “عقد الجلاد” بالتأكيد مستوحى من المتانة والتماسك والترابط، وقد عبّر “الاسم” عن “الحالة” والفرقة تتجاوز في عطائها العقود الاربعة، رغم الانشقاقات والمنعطفات التي مرّت بها.

اعتمدت عقد الجلاد على الأصوات الجماعية المتعددة، وهو شكل لم يكن مألوفاً في الغناء السوداني التقليدي، لكنها نجحت بامتياز في اختراق المألوف عبر تجربة ثرّة وطويلة.

ارتبطت أغاني عقد الجلاد بالميل إلى الرمزية والوطنية وملامسة قضايا المجتمع السوداني مباشرة. فأصبحت أعمالهم الفنية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوجدان السوداني وبالوعي السياسي والاجتماعي لدى الشباب وطلاب الجامعات.

كانت أمسية طويلة امتدت من التاسعة مساءً حتى الواحدة صباحاً. الوطن كان فيها حاضراً بقوة، وكذلك قضايا المجتمع، وعقد الجلاد كانت تتدفّق إبداعاً وروعة.

وكان لحن الختام رائعة عبد الوهاب هلاوي “حاجة آمنة اتصبري” التي تفجّر معها الجمهور تفاعلاً، فـ”حاجة آمنة” هي الأم والعمة والخالة والجارة والجدة… هي كل النساء اللواتي عانين من سفه نظام الكيزان. الأغنية تحوّلت إلى استفتاء شعبي لكراهية الناس لذلك التنظيم السرطاني.

هلاوي كتب الأغنية بدفقة واحدة – كما قال غير ذي مرة – فجاءت الكلمات صادقة، نابعة من معاناة والدته بعد وفاة والده مبكراً، حيث تركت ثلاثة أولاد وبنتين لتكافح الأم في رحلة طويلة بدأت من كسلا حتى بحري.

“حاجة آمنة اتصبري” ليست مجرد شخصية، بل رمز لكل امرأة تكافح ظروف الحياة الاجتماعية والسياسية القاسية.

واختار هلاوي كلمة “اتصبري” كدعوة للصبر، لكنها لم تكن دعوة للصبر السلبي بل كانت دعوة للصبر المقاوم ضد الظلم، ضد الفقر وضد القهر السياسي والاجتماعي.

كتب هلاوي الأغنية من معاناة شخصية حقيقية، لكن الكلمات تجاوزت القصة الفردية لتصبح رمزًا لمعاناة المجتمع السوداني بأسره، لأنها عبرت عن الظلم السياسي والاجتماعي ووجّهت انتقادات صامتة ضمنية للحكومات القمعية الدكتاتورية المستبدة في السودان.

لا زال تفاعل الجمهور مستمر ومتصاعد مع الأغنية فالجمهور لا زال يروى فيها صوتًا للعدالة ورفضًا للقهر والفقر والظلم وأصبح كل من يسمع “حاجة آمنة اتصبري” يربطها بحياته، بماضيه، وعائلته، وبصراعات السلطة المتجبرة مع نفسه ومع المجتمع المحيط به.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.