د. عبده شحيتلي
عرضنا في الحلقتين السابقتين للإرهاصات الأولى لبداية البعث في لبنان، والانطلاقة الرسمية للتنظيم الحزبي بعد المهرجان الذي تم تنظيمه تحت إشراف القيادة الحزبية الأولى في صيدا عام 1952، وبداية التنظيم الحزبي في الجنوب منذ بداية خمسينات القرن العشرين حتى العام 1962 الذي انعقد فيه المؤتمر القومي الخامس، حيث دخل التنظيم الحزبي مرحلة جديدة، سوف نخصص لها القسم الثاني من بحثنا.
فيما يلي نتناول بداية التنظيم الحزبي في البقاع في نفس المرحلة التي عرضناها سابقاً والمتعلقة بالتنظيم الحزبي في الجنوب، على أن تليها حلقات أخرى من هذا القسم الأول من بحثنا، نأمل ان تقدم صورة شاملة للتنظيم الحزبي المرتبط بالشرعية المتمثلة بالقيادة القومية التاريخية للحزب.
ونعود مرة أخرى للإشارة أن وثائق هذه المرحلة غير مكتملة، لذلك ندعو المهتمين للتصويب ان وقعنا في خطأ ما، رغم حرصنا على الدقة والموضوعية، أو الإضافة خاصة من الذين رافقوا هذه التجربة وعايشوها أو تكون لديهم رأي أو انطباع عنها يغني بحثنا.
البدايات الأولى للبعث في البقاع
تحققت الصلة بين قيادة البعث في سوريا والبعثيين الأوائل الذين أسسوا تنظيم الحزب في الجنوب اللبناني من خلال عاملين؛ هما الطلاب الذين كانوا يتابعون الدراسة الثانوية أو الجامعية في سوريا، وحضور القادة المؤسسين وتأثيرهم في الشباب الجنوبي بعد المشاركة في حرب فلسطين عام 1948 أو اللقاءات المباشرة معهم. ( يذكر الدكتور مصطفى دندشلي في مقابلة معه نشرها مركز الأبحاث والتوثيق في صيدا أنه في العام 1953 ذهب مع حوالي العشرة من البعثيين لمقابلة الأستاذ عفلق في مقهى نصر في الروشة، وأنهم خرجوا من هذا الاجتماع فرحين باجتماعهم مع مفكر الحزب ومؤسسه، وفخورين بانتسابهم الى الحزب).
أما على صعيد البقاع، فقد كان للجغرافيا، إضافة إلى العاملين المذكورين آنفاً، دور مساعد في تحقيق هذه الصلة، إذ كانت مساحات واسعة من البقاع، قبل تأسيس لبنان الكبير، جزءاً لا يتجزء من الجغرافيا السياسية السورية، إضافة الى الصلة المجتمعية الوثيقة للغاية بين العائلات في البلدين.
كل ذلك ترك أثرًا إيجابياً كبيراً تمثل بالعلاقة الوثيقة بين الكادر البعثي الأول في سوريا والبعثيين البقاعيين الأوائل. كان حضور قيادات البعث من السوريين إلى المدن والقرى البقاعية، أو تواصل البعثيين البقاعييين الأوائل معهم ميسراً للغاية، مهما كان واقع العلاقة السياسية بين السلطتين في لبنان وسوريا.
حضر المؤتمر التأسيسي للحزب في العام 1947 من البقاعيين: زيد حيدر من بعلبك، وحسين دلول من شمسطار، وعبد الله سكرية من الفاكهة قرب اللبوة. من بين هؤلاء الثلاثة لعب زيد حيدر دوراً قيادياً كبيراً في التنظيم على المستويين القطري والقومي، من خلال الحضور والمتابعة منذ انطلاقة التنظيم حتى اعتقاله وزجه في سجن السلطة التي ارتدت على الحزب عام 1966، وقد توزع نشاطه في هذه الفترة بين سوريا ولبنان .
أما التنظيم الحزبي في بعلبك، فقد نما، وبات حضوره في المدينة بارزاً بعد المهرجان الذي نظمه الحزب في سينما أمبير تأييداً لثورة الجزائر، ودعماً لمصر في قرار تأميم قناة السويس.
مدينة بعلبك كانت تابعة لولاية دمشق” وكانت مركز القضاء للمنطقة الممتدة من الزبداني الى أبعد قرية في جبال القلمون شمالاً، والبعلبكيون الذين يرغبون بمتابعة التعلم كانوا يتجهون إما الى دمشق في الغالب أو إلى حمص ( مقالة الأستاذ حسن بيان على موقع ذي قار التي نشرها بمناسبة وفاة الدكتور زيد حيدر اواخر العام 2020 ). من بين هؤلاء من البعثيين الأوائل في البقاع كان زيد حيدر وحبيب زغيب.
يتذكر الأستاذ حلمي معروف الذي غادر فلسطين مع أهله بعد النكبة وعاش في بعبك والهرمل في الفترة الواقعة بين العام 1955 و1970 لقاء مع زيد حيدر جرى على نهر العاصي في نيسان من العام 1966 بطلب من الأستاذ محمد حرب طرحت فيه موضوعات حزبية وسياسية بحضور الدكتور الياس فرح. هذا اللقاء جاء في سياق النشاط الحزبي المتميز الذي قام به زيد حيدر منذ انطلاقة التنظيم في البقاع وعلى مدى المرحلة التي عصفت فيها الأزمات بالتنظيم في لبنان وسوريا. أصبح زيد حيدر عضو قيادة قطرية في سوريا بعد 23 شباط 1966 مع ناصر سابا وممدوح نصيرات وآخرين قبل أن يعتقلوا من العام 1968 الى نهاية 1969 حيث تم تهريبهم بمعاونة حسين عثمان وحبيب زغيب، ونقلهم بسيارة نقولا الفرزلي الى بعلبك حيث كان الياس فرح وامين الحافظ بانتظارهم في بعلبك. وعند انعقاد المؤتمر القومي التاسع في نفس العام انتخب زيد حيدر عضواً في القيادة القومية وعين أميناً عاماً لجبهة التحرير العربية (م. ن ).
كان زيد حيدر ومحمد حرب إضافة الى حبيب زغيب وحسين عثمان أبرز كوادر البعث في منطقة بعلبك الذين استمروا بالتنظيم المرتبط بالقيادة القومية منذ بدايته وحتى سبعينات القرن العشرين، في حين كان لآخرين ومنهم سامي الرفاعي ومحمد خطار عواضة، حضوراً هاما في الحياة الحزبية، وكذلك عبدو رعد وعلي اليحوفي اللذين لعبا دوراً بارزاً في أحداث العام 1958 وقيادة التحركات الطلابية والتظاهرات في نهاية الخمسينات وبداية الستينات. وكان لغالب ياغي، في تلك الحقبة دور كبير في انتشار التنظيم الحزبي في مرحلته الأولى التي سبقت الأزمات التي عصفت بالتنظيم بعد انهيار حلم الجمهورية العربية المتحدة.
يذكر غالب ياغي أنه بدأ يتكرر على مسامعه من الطلاب السوريين أسم أكرم الحوراني كنصير للفلاحين ضد الإقطاع حين كان يتابع الدراسة في مدرسة الحكمة في الشرفية، فأحب سيرته قبل التعرف إليه عام 1953 بعد لجوئه مع الأستاذين عفلق والبيطار الى لبنان حين التقى به في مطعم منصور بعد أن نسق اللقاء الصحافي رياض طه لدعوته” للإقامة في بعلبك باعتباره مكاناً آمناً له” ( ياغي، غالب . خبايا الذاكرة ، ط، 1 2018 ، ص65 .. )
قدم غالب ياغي طلب انتسابه الى التنظيم الحزبي عندما كان طالباً يتابع الدراسة في الجامعة الأميركية العام الدراسي 1953- 1954 بعد حضور حلقات حزبية بمسؤولية الطالب في الجامعة آنذاك عدنان سنو، وما مضى وقت طويل حتى تم ترشيحه للقيادة القطرية عام 1956 ( م.ن ، ص 72 ). وفي مطلع العام 1957 ترك مهنة التعليم التي كان يمارسها، ليتفرغ للعمل الحزبي.
وفيما يتعلق بالتنظيم الحزبي في بعلبك يؤكد غالب ياغي أنه بعد فترة قصيرة من انتسابه للحزب كلفته القيادة بإعادة تنظيم شعبة بعلبك التي كانت قد حلت قبل انتسابه للحزب، وتم فصل بعض الأعضاء نتيجة لصراعات عائلية، فقام بتشكيل قيادة جديدة لمتابعة نشاط الحزب من خيرة الحزبيين في المدينة. من أبرز النشاطات الحزبية في ذلك الحين إأقامة مهرجان في سينما أمبير في بعلبك في 10 آب 1956 تأييداً لثورة الجزائر ودعماً لمصر بعد العدوان الثلاثي عليها . خطباء هذا المهرجان كانوا: الشيخ عبد الله العلايلي، والأساتذة شفيق مرتضى، وفضلو أبو حيدر، ونجيب جمال الدين، ونخلة المطران، إضافة الى غالب ياغي ( م. ن ، ص 84. ).
لا يذكر غالب ياغي شيئاً عن عريف المهرجان الذي يبدو أنه كان محمد حرب، يؤكد ذلك شهادة أمين عام المجلس النيابي الأستاذ عدنان ضاهر الذي حضر المهرجان في ذلك الحين، ويقول في شهادة له أنه انطبع في ذاكرته ما قاله محمد حرب بعد كلمة الشيخ عبدالله العلايلي، بعد أن أخرج من جيبه عود كبريت وأحرقه ليقول: كل من يتكلم بعد الشيخ العلايلي يحترق كعود الثقاب هذا ( حرب، عبدالله . محمد حرب، قيادي مقاوم ، ص 12.) .
ترك غالب ياغي الذي كان شديد الـتأثر والإعجاب بالأستاذ أكرم الحوراني التنظيم الحزبي عام 1962 بعد ان شغل موقع عضو قيادة قطرية ثم آمين سر القطر، لكن محمد حرب الذي كان “متيماً بحزب البعث ( م. ن ، ص 10 ) تابع نشاطه الحزبي، المتميز بصدق التزامه واندفاعه المنقطع النظير الذي جعله ينجز في مدى عمره القصير الذي ما تجاوز الثلاث والثلاثين عاماً ما يستحق التقدير والإعجاب؛ فبعد أن أنهى دراسة الصف الثامن في المدرسة الرشدية في بعلبك انتقل مع أخيه عبد الله إلى بيروت لمتابعة الدراسة في المعهد الثانوي في رأس النبع . هناك تعرف على أستاذ اللغة العربية إنعام الجندي من بلدة السلمية في سوريا، وتأثر به وانتسب الى الحزب. وشارك بكل النشاطات الوطنية والقومية في ذلك الحين إضافة لاطلاعه المتواصل على المنشورات الحزبية الأمر الذي أدى الى بلورة وعيه السياسي وحسه الوطني وإيمانه بالدور الطليعي الذي ينبغي أن يقوم به البعثي، وقد تجسد كل ذلك في بعلبك من خلال المدرسة الحديثة.
أعد محمد حرب لمشروع المدرسة الحديثة مع زميليه اسعد ذبيان وسليم معراوي، واستأجروا لها مبنى مناسب في شارع رأس العين، وكانت انطلاقة المدرسة في بداية العام الدراسي 1957- 1958، وقد حالت أحداث 1958 دون استمرار زميليه في هذا المشروع، لكن محمد حرب إبن العشرين سنة، في ذلك الحين، تابع وحده ونجح في جعلها مشروعا تربوياً وطنياً بعيدا عن غاية الكسب المادي.
كان في بعلبك في ذلك الحين مدرستان خاصتان هما مدرسة الراهبات ومدرسة المطران، إضافة الى “الرشدية “، وهي المدرسة الرسمية التكميلية الوحيدة ، لذلك كان التلميذ الذي يرغب بمتابعة الدراسة الثانوية مضطراً للانتقال الى زحلة أو بيروت وتحمل التكاليف الباهظة التي تعجز معظم العائلات عن تأمينها.
في هذا الواقع التربوي المزري الناتج عن إهمال السلطة للمناطق الملحقة بعد إعلان لبنان الكبير عامة ومنطقة بعلبك الهرمل بشكل؛ خاص أطلق المناضل الشاب مغامرته التربوية التي كان يراها ذات أبعاد وطنية وقومية، فكانت ” المدرسة الحديثة أولى الثانويات في منطقة بعلبك الهرمل”، وحين استحدثت أول ثانوية رسمية فيما بعد وكانت تعاني من نقص في كادرها التعليمي، أرسل محمد حرب أساتذة متطوعين من المدرسة الحديثة للمساعدة في انطلاقة الثانوية الرسمية. “وبعد أن ضاقت المدرسة الحديثة على طلابها في شارع رأس العين انتقلت إلى مبنى جديد في حي الشيخ حبيب “( م. ن ، ص64 ).
إضافة لأهميتها الكبيرة في مجال التربية والتعليم تميزت المدرسة الحديثة بدورها السياسي، فقد كانت مساحة وطنية للتلاقي والحوار بين مختلف الاتجاهات الوطنية، إن من خلال أساتذتها (جمعت المدرسة في كادرها التعليمي الشيوعي عبدو مرتضى الحسيني مع السوري القومي الاجتماعي حسن قطريب والناصري نواف عبد الله والبعثي حسين عثمان والمستقلين مجيد وهبي ومحمد شمص والأب اغناطيوس شمعون والسيد ماتيلدا ياغي والآنسة سمية مبارك والآنسة ظريفة قديح…. وغيرهم ( م. ن ، ص 65 ) .
أو من خلال المجلة التي أصدرتها باسم “رسالة الحديثة “، أو الندوات التي يدعى إليها أهل الفكر والرأي، أوالمسرحيات والاحتفالات بالمناسبات الوطنية والقومية، أو المظاهرات التي كانت تنطلق منها والتي جعلتها “عرضة لمراقبة عناصر المكتب الثاني، وكان يطلب من عناصر الجيش عدم إرسال أولادهم اليها تحت طائلة حرمانهم من المنحة المالية وعقوبات أخرى. (م. ن ، ص 66 ).
هذا الدور السياسي والوطني أدى لاعتقال محمد حرب أكثر من مرة، ولكنه لم يتراجع أو يلين وكان عند خروجه من الاعتقال يحمل على أكتاف الأهالي الذين “يجوبون به ساحة سراي بعلبك وهم يهتفون للوحدة العربية ثم يوصلونه الى المدرسة ” ( م. ن ، ص 73.) .
بعد أن اطمأن محمد حرب لنجاح مدرسته في بعلبك وقيامها بدورها التعليمي والوطني على أكمل وجه، قرر فتح فرع لها في مدينة الهرمل التي تعاني من واقع تربوي أكثر بؤسا من بعلبك، فاستحصل على رخصة للتعليم المجاني وفتح فرعاً مجانياً للمدرسة الحديثة في الهرمل في مبنى يعود لجمعية يشرف عليها الشيخ موسى شرارة، وحين رغب الشيخ موسى بفتح مدرسة باسم الجمعية، “ترك له محمد المبنى مع المدير والطاقم التعليمي دون مقابل” ( م. ن ، ص 65 .).
-البعث من بعلبك إلى الهرمل:
في الهرمل كانت بداية التنظيم الحزبي مشابهة إلى حد ما لبدايته في بعلبك، نظراً للواقع الجغرافي الذي يربطها بسوريا، ويجعلها تتأثر إلى حد كبير بما يجري فيها على المستوى السياسي، رغم أنها كانت تاريخيًا تشكل ناحية تتبع جبل لبنان في عهد المتصرفية.
بعض البعثيين الأوائل في الهرمل مثل الأستاذ كرم الساحلي كانوا على صلة بمحمد حرب وحبيب زغيب في بعلبك، وبعضهم الآخر مثل الأستاذ ماجد محفوظ تعرف على أفكار البعث في الكلية الجعفرية في صور، أو المقاصد في صيدا حيث تابع المهندس عاصم قانصو دراسته وانتمى الى التنظيم الحزبي، إضافة الى علاقتهم بالكادر الحزبي السوري المتقدم مثل الأستاذ ألياس فرح.
انتسب الأستاذ كرم الساحلي إلى البعث عام 1956، وأقسم اليمين الحزبي عام 1957 وكانت صلته التنظيمية حينذاك مع غالب ياغي في بعلبك. كان من رفاق دربه في بداية انطلاق العمل الحزبي في بعلبك الأستاذ دياب شاهين، والأستاذ ماجد محفوظ، والأستاذ غسان شعلان بليبل، وخضر بليبل وآخرون .
تدرج المناضل الأستاذ كرم حزبياً من نصير إلى عضو عامل وفي مختلف المواقع القيادية من الفرقة إلى الشعبة والفرع وصولاً إلى القيادة القطرية حيث شغل لفترة موقع نائب أمين سر القطر، وحضر العديد من المؤتمرات القومية ومنها المؤتمر القومي السابع عام 1964 الذي انعقد في دمشق، وعدة مؤتمرات قومية في بغداد منها المؤتمر القومي الثاني عشر عام 1992، وشارك في العديد من المناسبات القومية ومنها تمثيله للحزب في اليمن حيث ألقى كلمة الحزب في لقاء جماهيري نظمه التنظيم اليمني. ومن المهام الحزبية التي يتذكر أنه قام بها بناءً على تكليف حزبي نقل كريم الشنتاف ومن ثم تهريبه من سوريا إلى لبنان بمساعدة الأستاذ محمد حرب. كذلك نقل وتهريب كمال فاخوري ومحمد مسعود الشابي من حمص إلى لبنان، وكانت المهمة يومها تشمل صلاح الدين البيطار لأنهم كانوا معرضين للاعتقال، وقد قام بهذه المهمة بالتعاون مع ضابط سوري حيث تم تسلمهم في ربلة ونقلهم إلى لبنان (مقابلة مع الأستاذ كرم أجراها الأستاذ أكرم قانصو في الهرمل عام 2024 ). وكانت له مهام عديدة طيلة مسيرته الحزبية بدءاً من النضال ضد الإقطاع السياسي إلى النضال المتعدد الأبعاد تنظيمًا وسياسيًا وعسكريًا، خاصة المهام التي تتطلب مسؤولاً على دراية بمسالك التهريب بين لبنان وسوريا. وقد تعرض بفعل التزامه وطنياً وقومياً للاعتقال والتهجير، في المرحلة الأولى من نضاله حيث اعتقل في ابلح من قبل الشعبة الثانية، وفي المراحل اللاحقة التي بات فيها النضال أكثر صعوبة وكلفة على المستويين الفردي والعائلي. ولنا عودة إلى محطات نضالية ساهم فيها في الأقسام التالية من هذا البحث. يذكر الأستاذ كرم أنه بعد أن عين استاذاً في التعليم الرسمي في الهرمل، ونتيجة لنشاطه الحزبي تم نقله تاديبياً إلى بلدة بوداي في غربي بعلبك وهناك استطاع تحقيق كسب حزبي هام ترك أثره الإيجابي على التنظيم الحزبي في غربي بعلبك فيما بعد، إذ أنه استطاع استمالة كل من مدير المدرسة الأستاذ مالك شمص، والأستاذين علي مشيك، وأحمد سلمان الذين انتسبوا إلى البعث، وتولوا فيما بعد مواقع مفصلية في التنظيم الحزبي في البقاع.
– انتشار البعث في غربي بعلبك كانت بداية التنظيم الحزبي في غربي بعلبك مرتبطة بالدور الذي لعبه الأستاذ ملحم المعلوف في حدث بعلبك .
انتمى الأستاذ ملحم إلى البعث في بداية خمسينيات القرن العشرين، وفي العام 1954 كان له في زحلة موقف علني معارض للوزيرآنذاك بيار الجميل، الأمر الذي ترتب عليه عقوبة وظيفية لترهيبه والتأثير في مواقفه الوطنية كما ذكر أحد تلامذته الذين رافقوا تجربته النضالية الطويلة التي امتدت في الحدث وغربي بعلبك حتى منتصف السبعينيات حين غادر إلى بيروت ليصبح استاذًا في مدرسة الرميل( من مقابلة مع الأستاذين محمد زعيتر ووجيه ياغي في حدث بعلبك بتاريخ 2 أيلول 2024 ) . أثر الاستاذ ملحم بتلامذته وصار قدوة لهم قبل أن يتعرفوا على انتمائه الحزبي من خلال علاقتهم به كمدرس في مدرستهم التي كانت صفوفها موزعة على عدة أبنية، هذه العلاقة الوثيقة المفعمة بالقيم الأخلاقية والوطنية، والاهتمام والرعاية التي خصهم بها أسهمت في حثهم على المثابرة والنجاح للوصول إلى حيازة شهادة البروفيه، وكذلك من خلال دوره في تأسيس كشافة التربية الوطنية التي كانت بمثابة مدرسة ثانية لهم تكمل الجانب التعليمي بتنمية الجانب الاجتماعي والاعتماد على الذات، لذلك ما كان غريباً أن يغدو قدوة لهم، فينتمون لحزبه عند تفتح وعيهم السياسي وتبدأ صلتهم بالتنظيم الحزبي في بعلبك مع الدكتور حبيب زغيب، إضافة إلى العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بالدكتور الياس فرح وعلاقة الصداقة التي حافظ عليها مع المهندس عاصم قانصوه في تلك الفترة.
وقد لعب تلامذة الأستاذ ملحم ومعظمهم من حدث بعلبك والقرى المحيطة بها دوراً هاماً في نشر التنظيم الحزبي في المحيط الاجتماعي في قرى وبلدات غربي بعلبك.
يمكن القول إن انتشار التنظيم في المنطقة الممتدة من بدنايل والقرى المحيطة بها إلى حدث بعلبك والقرى والمزارع المحيطة بها، مرورا ببلدة شمسطار، كان بفعل الدور الذي لعبه كل من زيد حيدر المتحدر من بدنايل وملحم المعلوف إبن حدث بعلبك. لذلك كان الوجود الحزبي في هاتين البلدتين أسبق منه في البلدات الأخرى ولمعت فيهما أسماء بعثية شغل بعضها مواقع قيادية هامة في التنظيم الحزبي أضافة إلى الحضور والدور الاجتماعي، بعضهم شغل موقع سفير للعراق فيما بعد مثل الأستاذ نواف حيدر والبعض الأخر مثل الأستاذ حمد سليمان كان له موقع قيادي متميز على المستويين الفرعي والقطري إضافة إلى حضوره الشعبي ودوره التربوي والاجتماعي والوطني .
وبالانتقال اخيراً الى البقاع الغربي، فقد كان اسم نقولا الفرزلي، إبن بلدة القرعون، الأكثر تردداً في مختلف الوثائق الحزبية، وكان له دور كبير في العمل التنظيمي على صعيد البقاع عامة ثم على الصعيد الوطني فيما بعد خاصة في مرحلة ما بعد المؤتمر القومي الخامس التي سنتناولها في القسم الثاني من بحثنا. كانت صلة الأستاذ نقولا وثيقة للغاية بالأستاذ عفلق أبرز مؤسسي البعث وعميده المنتخب في المؤتمر التاسيسي، ثم أمينه العام فيما بعد. يظهر ذلك جلياً في رسالة نشرت للمرة الأولى في الذكرى الثامنة والعشرين لرحيله تحمل تاريخ العشرين من يوليو 1961، يتوجه بها الأستاذ عفلق إلى زوجته ليطمئنها إلى ” طيبة معدن ” بعض الرفاق يقول فيها “كيف لا نثق بالإنسان ايتها الحبيبة، وقد رأيت معي في هذه المدة، في هذه الظروف العصيبة التي نجتازها نماذج قليلة من الأشخاص الذين محضونا حبهم من دون تحفظ وذهبوا الى أبعد حد من المودة والكرم والتهذيب يكفي أن نذكر الأخوين (لم يذكر عفلق هذه الأسماء بل اكتفى بوضع ثلاث نقاط. لكن العارفين يؤكدون أنه يقصد الأخوين الفرزلي أي نقولا والياس الفرزلي “( أسعد الخوري ، جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 5-7-2017) . كانت علاقة الأستاذ نقولا بالأستاذ عفلق وثيقة للغاية، وكان بالنسبة للبعثيين عامة والجيل الثاني من البعثيين وقيادتهم في البقاع الغربي جزءاً أصيلاً من تراث الحزب، وينظرون إلى حضوره بينهم باعتباره حضوراً سياسياً لا يعوض، لأنه يتميز بالسمعة النضالية والسياسية الممتدة عبر عشرين عاماً من تاريخ الحزب.
من هؤلاء الحزبيين من البقاع الغربي تذكر إحدى الوثائق غير المنشورة حسن جانبين، وأبو علي درويش، ونايف فاعور، ورفعت فارس .
لا شك بأن الاستاذ نقولا الذي تابع مسيرة التنظيم من البداية وتابعه عن قرب ومن أعلى المواقع القيادة يمتلك خزاناً غنياً من الوثائق والمعلومات والمعطيات غير المنشورة التي نامل أن تنشر يوماً، إضافة لما تم نشره باسمه في الوثائق الحزبية التي وسنعود إليها في القسم الثاني من بحثنا.

Leave a Reply