الذكاء الاصطناعي بين وعود (الوفرة الجذرية) ومخاطر (الهيمنة التقنية)

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

تعيش البشرية اليوم لحظة فاصلة في تاريخها، لحظة يمكن أن تعيد تعريف معنى الإنتاج، والمعرفة، والقدرة ذاتها. لم تعد تقنيات الذكاء الاصطناعي محصورة في مهام مساعدة البشر، بل أصبحت تطرق أبواب الاكتشافات العلمية الكبرى، وتفتح إمكانيات لاقتصاد ما بعد الندرة، حيث تصبح الطاقة، والمعرفة، والخدمات، متاحة على نحو شبه مجاني. هذه الرؤية، التي يصفها بعض العلماء بـ(الوفرة الجذرية)، تمثل حلمًا طالما راود الفلاسفة والمفكرين منذ عصر التنوير، عالم تتحرر فيه الإرادة الإنسانية من قيود الجوع والمرض والجهل.

لكن التاريخ لا يروي قصص الوعود وحدها، بل قصص الانكسارات والانحرافات أيضًا. فكما أنتجت الثورة الصناعية ثروات غير مسبوقة، أنتجت معها استعمارًا واسع النطاق، وفوارق طبقية حادة، وتلوثًا بيئيًا ممتد الأثر. الأمر ذاته قد يتكرر – بوتيرة أسرع وأشد – إذا تُرك الذكاء الاصطناعي رهينة لقوانين السوق ونزعة الهيمنة الجيوسياسية.

الذكاء الاصطناعي لا ينمو في فراغ. إنه يحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة والموارد المائية لتشغيل مراكز بياناته، مما يعني أنه مرتهن بالسياسات البيئية، وبشبكات إنتاج الطاقة العالمية التي لا تزال تعتمد إلى حد كبير على الوقود الأحفوري. أي أن هذا (المفتاح السحري) للوفرة قد يأتي ومعه فاتورة بيئية جديدة، إذا لم يقترن بالتحول الجذري نحو طاقة نظيفة ولامركزية.

كما أن البنية الأخلاقية لتوزيع ثمار هذه الثورة لا تزال غائبة. فالتكنولوجيا، مهما كانت تقدمية، لا تضمن عدالة توزيع فوائدها إلا إذا صاحبتها منظومات سياسية واجتماعية تعيد صياغة قواعد الملكية، والحق في المعرفة، والسيادة الرقمية. هنا يتبدى الخطر الأكبر في أن تتحول الوفرة المحتملة إلى تركيز غير مسبوق للثروة والقدرة في أيدي شركات قليلة، أو دول بعينها، فتُنتج شكلاً جديدًا من (الإمبريالية التقنية).

لقد أشار( ديميس هاسابيس) ، أحد أبرز رواد الذكاء الاصطناعي المعاصر، إلى أن الثورة القادمة قد تكون أعظم بعشر مرات من الثورة الصناعية، وربما أسرع منها. لكن هذه السرعة ذاتها تضع أمامنا تحديًا وجوديًا، هل نستطيع صياغة إطار عالمي – أو قومي – يضمن أن هذا التقدم يصبح محررًا للبشرية لا أداة لاستعبادها؟

الإجابة على هذا السؤال لا تكمن في المختبرات وحدها، بل في ميدان السياسة والثقافة والوعي الجمعي. فـ(الوفرة الجذرية) ليست قدرًا حتميًا، بل خيارًا حضاريًا يتطلب أن نربط العلم بالعدالة، وأن نعيد تعريف التنمية بحيث تشمل الإنسان قبل الآلة، والعدالة قبل الكفاءة.

إن المشروع القومي العربي، إذا أراد أن يواكب العصر، لا يمكنه أن يتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه مجرد تقنية مستوردة، بل كأداة استراتيجية للتحرر الاقتصادي والسيادي. فالاشتراكية القومية، التي تقوم على التخطيط الممنهج وتوزيع الثروة بعدالة، تجد في هذه التكنولوجيا فرصة تاريخية لتجاوز التبعية لمراكز الابتكار العالمية، وبناء اقتصاد معرفي مستقل قادر على إنتاج القيمة داخل الوطن العربي. إن امتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوطينها ليس ترفًا علميًا، بل هو شرط من شروط السيادة الحديثة؛ إذ يمنح الأمة العربية  القدرة على إدارة مواردها، وتطوير صناعاتها، وحماية أمنها المعلوماتي، بل وصياغة نموذج تنموي جديد يُحرّر العمل من الاستغلال، ويوجه فوائض الإنتاج نحو الصحة والتعليم والبحث العلمي. إن النهضة القومية في القرن الحادي والعشرين لا تُقاس فقط بامتلاك الأرض أو السلاح، بل بامتلاك العقل الجمعي القادر على تسخير الثورة التكنولوجية لخدمة أهداف الأمة العربية ووحدتها.

إننا أمام لحظة قد تمنحنا فرصة نادرة لتجاوز منطق الندرة الذي حكم التاريخ البشري لآلاف السنين، لكن هذه الفرصة، إن أسيء إدارتها، قد تقودنا إلى أشكال جديدة من التبعية والهيمنة. فإن جوهر التحدي هو أن نمتلك الشجاعة والرؤية لنجعل من الذكاء الاصطناعي أداة لتحرير الإنسان، لا لتقييده، وأن نُخضع التكنولوجيا لمشروع إنساني جامع، لا أن نخضع نحن لها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.