حين يبلغ العقل سنّ الفِطام

صحيفة الهدف

د أحمد الليثي
#ملف_الهدف_الثقافي
يولد العقلُ رضيعًا في حضن القطيع، ينهـل من أثداء العادة، ويغفو على وسادة المُسلّمات، ينمو على حكاياتٍ موروثةٍ تُلقّنهُ اليقينَ قبل أن يتذوّقَ الشك، يسكن قوالبَ المألوف، ويألفُ قيوده كأنها أمان، تُسكته الأجوبة قبل أن يتعلّم صياغة السؤال.
لكن… ثمّة لحظة تتسلّل كوميض، لا تُرى، لكن تُحسّ، يبدأ فيها العقلُ بالاشتباه في مرايا الواقع، ويضيق صدره حين تُحشر الرؤية في عين الجماعة.
يصحو فيه صوتٌ خافت، كأنّه وخزُ ذاكرةٍ منسيّة: “لماذا؟” فتتشقق جدران الطمأنينة، كأنها جلدٌ ضاق على جسدٍ تمدّد.
عندها… يبلغ العقلُ سنّ الفِطام.
يتحرّر من سطوة الوصاية، ويشرع في بناء يقينه لا من طين العادة، بل من نار التجربة.
يعثر في الحيرة على أول ملامح البصيرة، وفي الشكّ على أول بذور الإيمان الحقيقي.
إنه فطامٌ عن التكرار، عن الفكر المعلّب، عن التصفيق الجماعي للمعنى الموروث.
فطوبى لمن نضجوا، لا حين سمعوا، بل حين أنصتوا إلى ذواتهم؛ أولئك الذين أدركوا أن النضج ليس امتلاك الأجوبة، بل الجرأة على طرح السؤال، فالفكرُ ساعيَ حرّية، والشكُّ سلّمُ صعود.
في تلك اللحظة، لا يعود الصمتُ حكمة، ولا الإذعانُ سلامًا.
ينتزع العقلُ فمه من ثدي المألوف، ويقف على قدميه، يسقط، يقوم، يركض نحو المجهول، يحمل أسئلته كما لو كانت أطفالًا خرجوا من رحم الوحدة.

الفِطامُ ليس موتًا، إنّه أول نَفَسٍ في حياةٍ تُصاغ بإرادةٍ لا بإرث، حياةٍ لا تُملأ بالأجوبة، بل تُضاء بالأسئلة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.