القطار المر

صحيفة الهدف

محمد المرتضى حامد

#ملف_الهدف_الثقافي

بعض العاشقين أدرجه ضمن “العواذل” ومُفرِّقي القلوب، ودعوا عليه بالخراب. وكان أعلاهم صوتًا الرائع عثمان الشفيع حين غنى: “يا القطار تِتدَشدَش يا الشِلتً محبوبي”، كتطبيق جاهز لمهاراتنا في تصدير اللوم والألم، لا سيما عند الإخفاق في إدارة المشاعر. وللمفارقة، فإن نفس قطار الفراق قد يجمعك بإنسان “رقيق ونّاس” دون سابق ميعاد، فيجعل من سفرك رحلة بين طيات السحاب وفوق القمر.

رحلة إلى الماضي

تكون أمورك ماشية كوييييس، تدندن كدا بين السر والجهر بالأماني الخدّرت وأنت مستجد ثانوي عالي وماخد “كتشنر برايز” في الريده، راجع من المدرسة الأمدرمانية المعروفة في نفس خط سير وموعد تلك التي غنى لها الجميل محمد ميرغني: “ما جارتنا بت حارتنا…” والباقي معروف. تصل البيت لتفاجأ بنبأ أن الوالد سيُنقل إلى مدينة بعيدة. حالة وصفها درويش بقوله: “ما كدنا نعد الأرض حتى انقض حامينا على الأعراس والذكرى…”. الله يهديك يا الحكومة “المابتسأل عن ظروفنا”. بالله وزارة التربية والتعليم دي مش مفروض تعمل دراسة حالة لأفراد الأسرة قبل أن تصدر كشف التنقلات فتستثني المصابين بعشق جديد ومحب بالمسالمة له غزال نافر بيغني عليهو؟ أصلو الحكومات دي بس شغالة ضدنا نقلًا وانقلابات وبُمبانا.

هل جربتم مُشتَرَك نيالا أو بورتسودان؟ هل سمعتم الرائع صالح الضي ينوح بـ “يوم سافر قطارك جاني الخبر عشيه”؟ يا عينيا…

كان من أطول القطارات، فهو يجمع بين عربات المسافرين والشجن والبضائع والفراق. عندما يطلق الصافرة معلنًا مغادرة محطة الخرطوم يجتاحك إحساس أن تطلب إلى الأمم غير المتحدة إعلان هيئة سكك حديد السودان S.R منظمة إرهابية. ستفارق أرض الحبيب والجوابات المدسوسة في الدكشنري، ستفارق حفلات أمدر ونظرات العامرية مع كل أغنية لزيدان، ولمة رفاق الدافوري العاشقين بوشم على الصدر يقول: أي جهاد غيرهن أريد!

محطات ووجوه

يتوقف القطار في المحطات الكبيرة فتترجل مطمئنًا بأنه سيتوقف لساعة على الأقل، وحتى لو كانت لدقائق فالسائق سيطلق صافرة تنبيه في محطة مدني السني: “طمِّني” فتسمعها الرئاسة في أتبرا. تتمشى وتعمل “اسكاننق” سريع لحمولة العربات، و”عبلة” و”لبنى” تطلان من النوافذ المحظوظة: “يا بتاع الدوم تعال”. جيش من الباعة الجائلين والمشترين الذين يقررون في اللحظات الأخيرة اختيار ما يريدون شراءه، وحتى بعد أن يتحرك القطار “قَن قَن” يلاحقهن الباعة خببًا وركضًا في عملية تسليم وتسلم كأنها سباق تبادل، فقد اشتهرت بعض المحطات والـ”سَنْدَات” بمنتجات بعينها بغض النظر عن المواسم.

أطلّت “عبلة” من إحدى عربات “النوم” وسِنَّها بَرَّاقة يسوي “بق”، تشي هيئتها بأنها كريمة أحد كبار الموظفين المنقولين إلى مدينة سيتغير اسمها حتمًا إلى “قرطبة” رضي أهل المدينة أم أبوا، فأحكام الجمال لا تُستأنف.

أيوااا، إذًا العربة رقم 1014 هي “الكامب نو” تحتضن لاعب ارتكاز القطار، وعليه “نحن والقمر جيران”، كما تغنت فيروز، سيتيح ذلك التجول في الممر لاحقًا عسى “تتزود بنظره وترجع تنسجن”.

عامل “السناطور” بزيه النظيف يحمل صينية طقم الشاي الموسوم S.R للقمره الفي القمره، دار عبلة، وبالهنا يا السوناتا.

القطار والحياة

بحق، القطار يشبه الحياة. فهو يجمعك بوجوه وسِحَن وأناس يأتون من كل فج عميق، ثقافات ومستويات اجتماعية تتباين، بعضهم يغادر عند أول محطة ليأتي غيره، وآخر أصيل يرافقك حتى النهاية. تقضي فيه ساعات طوال وربما أيامًا تشاهد فيها سهولًا وبطاحًا وبقاعًا ومدنًا وقرى ودساكر تختلف بيئاتها وقبائلها وأنت من النافذة تتأمل وتتجول بين العربات أحيانًا.

الناس يتعارفون ويتآنسون ويتآلفون: “بالله انت قريب ناس خالد؟ ياخ كان كدي انتو نسابتنا”. فيقدموا لبعضهم ما حملوا من زاد، والزاد خشوم بيوت، بعضه قال عنه محمد سلّام: “زاد السفر يا حلوة كان كلمة وداعِك لي في ساعة الرحيل”، وذلك زاد لا يبلى، ينتح في القلب، زاد زي عفصة التَلْجة حافيًا، لا تعرفو حار لا تعرفو بارد لكن أثره، لاااا حول.

في مشهد آخر يختلف القطار عن الحياة، فالإنسان في رحلة حياته يتوهم أنه في اتجاهه إلى محطة اسمها السعادة، محطة تهيمن على فِكره وقراراته بمظنة أنه سيصلها يومًا، دون أن يدرك أن السعادة والتعاسة في حياتنا هي القطار نفسه ولا محطة نهاية. الحاضر هو كل شيء بكل قوته وجبروته وحضوره، وكما قال إيكارت تول في مؤلفه الباذخ (قوة الآن) The Power of Now: “عِش لحظتك فهي كل شيء”. لأن الذي يغرق في الماضي الذي لن يعود والمستقبل غير المولود، يُضَيِّع حاضره ومستقبله معًا.

افتتان بالماضي وحزن على الحاضر

منذ القوافل والهواِدج لم يشهد التاريخ وسيلة نقل رومانسية مثل قطار البخار. فعندما تنظر إليه من النافذة وهو في انحناءة طويلة، يمكنك مشاهدة كل العربات من القاطرة وحتى عربة الفرملة. وإذا كانت الريح عكس اتجاه الرحلة، فما أسعدك بمشاهدة الدخان الأسود يتصاعد من المدخنة متجهًا إلى الوراء (تسريحة فرح ديبا)، هضليماً يسافر عكس الريح. مشهد يسعد النفس فتصطحبه في حصص الفنون.

كان افتتاننا بالقطار عظيمًا، فالإنسان ابن بيئته. تعجبنا اللافتات البيضاء مكتوب عليها أسماء المدن قبل دخولها. يدهشنا السائق (العطشقي) وهو يمد يده أثناء سير القطار داخلًا المحطة ليضع (التابلِت) في محله تمامًا كلاعب سلة محترف. يليه (السيمافور) المنحنى كتصريح للقطار بالدخول وربما تحية للقادمين، ويا سلام على ناظر المحطة (أبوبرنيطه) في استقبالنا.

حفظنا تلك التفاصيل وأحببناها وتطرفنا في عشقها حتى أننا كنا نهتبل السوانِح في المحطات لنشاهد تفاصيل القاطرة وأجهزتها وحركة الأذرع الواصلة بين العجلات تماثل في حركتها التبادلية الأيادي في رقصة (التويست) زمانئذ. عقب إحدى أوباتنا إلى أمدر الحبيبة، طلبت إلى الوالد، أمد الله في عمره، أن يُفَصِّل لي (أبرول) أزرق بحمالات لأرتدي تحتها فانلة بيضاء (نص كم) تشبُّهًا بسائق القطار الذي كان عندي bionic man ود خال (ستيف أوستن) لَزَم، فضحك وعرف أني أصبت بمتلازمة “قطر الخميس الفات الفَّرق الحِبان الليله يا حليلو”، فتجاهل طلبي.

يا سلام على عمال الدريسة السمحين ياخ. في إحدى الرحلات مع الأسرة ذات خريف ماجن عربدت سيوله العارِمة في ديار المسيرية فجرفت السكة بحالها، وبقينا أيامًا في بابنوسة، التي وردت في طرفة الراحل عوض دكام، لن أصف كيف أكرمنا أهلها في بيوتهم لأيام حتى نجح عمال الدريسة في إصلاح الخط فواصلنا المسير باتجاه الضعين وديار الرزيقات فنيالا.

يا إخوانا السودان دا سمح جد.

نهاية الرحلة

اللنقليز ياخ، كنت أعجب كيف لبشر أن يبنوا خطوطًا حديدية بفلنكاتها وجسورها من بورتسودان إلى نيالا وحتى (واو) العزيزة. واليوم نتحسر لأن التطور الطبيعي كان يستوجب أن تكون سكك حديد السودان قد صنعت (نجمة الصباح) أو الياباني Maglev (603 كلم في الساعة)، وأن سودانير تخطت الأثيوبية التي ولدت معها في 1946، وسودانلاين تقدِل ناقلاتها في المحيطات لكن..

هي لله.

ذات صباح تنحى الفرح، فقد غادرت عبلة ورهطها القطار دون وداع وقبل أن نقدم أوراق اعتماد الوعي المبكر أو ندلي بأية إفادة من عيار “الأماني الفي سفر كايسه المواني… يوم تجيبني عليك بصدِّق إنو مره الحظ طِراني”. لكن نسوي شنو!

ساعاتنا في الحب لها أجنحة، ولها في الفراق مخالب.

أغسطس 2025

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.