
عز الدين ميرغني
#ملف_الهدف_الثقافي
(الأنا هي شخص آخر)
(رامبو)
يُعتبر الشاعر الكبير محمد نجيب محمد علي من جيل بداية الثمانينيات في بلادنا. ويمثل شعره الصمود في وجه دعاة التغيير باسم الحداثة، وفي وجه من يريدون للشعر العربي الوقوف محلك سر، حيث الجمود والتحجر واللغة المتخشبة. فقد حمل هذا العبء ولا يزال، رافعًا راية شعر التفعيلة. وفي ديوانه الأخير (دم العاصفة)، يتجلى المثال والنموذج على ما نقول.
وكما قال عنه الناقد الكبير عبد القدوس الخاتم في تقديمه لهذا الديوان، الذي جاء في مقدمته: {يتميز محمد نجيب محمد علي بامتلاكه ناصية المنطقة الحرة الواقعة بين ملكوت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وفيها يطارد أرانب خياله الذهبية طفلًا لا يلوي على شيء، وإن تكسرت تحت قدميه أواني اللغة الفخارية، أو تبعثر جرانيت التماثيل القاموسية المقدسة}. ولعل الوقوف بين مدرستين يجعل العبء كبيرًا على شاعرنا، ولكن تتحفز عنده ملكة الحركة ومراقبة التطورات والتجديد فيهما. رغم أنه في رأيي، ما يزال التلميذ المخلص والمجدد لتقنية التفعيلة. وهذا الإخلاص لتقنية التفعيلة لا يجعله مقلدًا لأساطينها في العالم العربي، وإنما جعلها وسيلة طيعة في توصيل خطابه الشعري. وقد أطلق الأستاذ عبد القدوس الخاتم على تقنية القصيدة عنده بأنها “كتابة القصيدة المدورة”. وهذه التقنية تجعل صاحبها واعيًا بكل التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية في زمن الكتابة.
والشاعر محمد نجيب محمد علي، بإخلاصه لتقنية الشعر الحر، أو ما يُطلق عليه شعر التفعيلة، وهذا الإخلاص جعله يحمل عبء تطوير أشكال التعبير الجمالي عنده، وأن يكون وعيه الذاتي يقظًا ومتحفزًا. فهو ديدنه الحركة وليس الثبات والوقوف:
إنني أبحث عن صوت هناك
عن يد أخرى تبادلني العراك
عن مساء لا ينام
إنني أبحث عن شيء
يفجر داخلي قسرًا
ويمنحني السلام
فهو في انفعال دائم، والانفعال حركة نفسية داخلية تتكامل مع الآخر (صوت وعراك). والعراك هنا يعني تفجير الطاقة الجمالية الكامنة بداخله. فالشاعر محمد نجيب محمد علي له رؤيته الشعرية، مثله مثل كل شاعر كبير، له اختلافه وميزته عن الآخر، حتى ولو كانوا ينتمون لمدرسة واحدة. فكل شاعر يختلف في كيفية صياغة هذه الرؤية. فمنهم من يقلد أصحاب مدرسته، ومنهم من يجرب ويجدد، وهذا هو الذي يكتب لشعره الخلود. وفي أغلب أشعاره فإن الشاعر محمد نجيب محمد علي قد وظف أطروحات الحداثة الشعرية، لا سيما على مستوى بنية الاستعارة الجديدة، والانزياح، الذي يلغي العلاقة المنطقية بين الصفة والموصوف، بحيث تتولد علاقات جديدة بين الأشياء تقوم على عنصر الغرابة والمفارقة (الموج الجبل)، (والبنت الفرس)، (والعيون الخبيثة)، (والمغاور القتيلة الدعاء)، (والحضن النقي)، (والأشياء الهمجية)، (والغناء الفجيعة).
“دم العاصفة”: عنوان يكسر رتابة الأسماء
لعل واحدة من أطروحات الحداثة الشعرية الجديدة عنده، هو عنوان ديوانه المميز (دم العاصفة)، فهو عنوان يكسر رتابة الاسم في دواوين الشعر عندنا. فالعنوان في الدراسات السيميائية الحديثة يمثل استراتيجية الكاتب، الذي يريد من اختيار عنوانه المميز أن يقيم علاقة تبادلية بين العنوان والنص. فالعنوان هو صلة ووسيلة الاتصال الأولى التي تقوم بين القارئ والكتاب أيًا كان جنسه وبطاقته الأدبية. و(دم العاصفة) يدخل في ما يسمى بتقنية (العنوان القصير). فهو جملة اسمية تبدأ بنكرة، وله عدة دلالات مختلفة. فالعنوان لا يحمل دلالة زمانية أو مكانية، ولكنه ذو دلالة وصفية، كأنما هنالك عاصفة تنزف دمًا، وهو هنا ذو رمزية مفتوحة وعميقة محفزة لمعرفة ما بداخل الديوان قبل قراءته. وليس العنوان مأخوذًا من قصيدة واحدة في الديوان، فكأنما أراد أن يرمز لمعاناته التي سكبها شعرًا ينزف دمًا من عواصف النفس الداخلية. فهذا العنوان هو العنوان الرمز المرتبط بذات الشاعر المتشظية والمجروحة. و(دم العاصفة) هو المفتاح الدلالي الأول لنصوص كل الشاعر في الديوان، باعتباره نصًا صغيرًا موازيًا للنص الأكبر، بل متحدًا معه. فكل قصيدة في الديوان، فحروفها هي من دم العاصفة. فهي معاناة الكاتب مسفوحة شعرًا، فتجعل عاطفته مدموغة ومختومة بدم الصدق (الصدق العاطفي الأصيل). فهو ديوان مضمخ بنزيف الصدق العاطفي. فـ(دم العاصفة) كعتبة أولى للديوان، تساعد بذلك في التأسيس لعملية القراءة، وفي خلق أفق التوقع عند القارئ، من خلال الوظيفة الشعرية التي تقوم، وهو يكشف لغة الكاتب الخاصة. والعنوان ليس مهومًا سابحًا خارج جزيرة النص، وإنما هو بداخلها متماهيًا ومرتبطًا مع كل قصيدة، فالشعر يتألم من نزيف عواطفه الداخلية ونفسه التي تتألم للآخرين.
أيها الناس.. أسمعوني
لم أعد أعرف عقلي من جنوني
إنها الصور… تراءت في عيوني
إنها الأصوات تزحم باب أذني
كل وقت تزدريني
وأغلب عناوين قصائده ذات وظيفة شعرية، وهذا ما يطلق عليه الناقد الفرنسي (جيرار جونيت): (الوظيفة الشعرية والجمالية للعنوان). فأغلب عناوين القصائد يمتاز بالطول، (تداعيات في غرفة إنعاش)، و (مطارحات في شارع عام). وفي ديوان (دم العاصفة)، فإن التأسيس العاطفي لدور المرأة ليس حسيًا، ولكنها تأتي كرمز لعاطفة أكبر، وشعره هو شعر الهم الفكري والوجودي للشاعر. (شاعر يخشى على نفسه من نفسه، ويرى الأشباح تزحمه، وتحاصر الرؤى حسه، فيصرخ: أيها الناس أسمعوني، لم أعد أعرف عقلي من جنوني). فالمرأة في شعره محطة عاطفية تلازمه ليخاطب بها الكون كله، فهو منذ الثمانينيات قد قال للعشق وداعًا:
حاصرتني ثم قالت: أنت سارق
أخرجتني ثم قالت: أنت مارق
أي بحر لم يراودني…
وقد ضلت على البحر الزوارق
أيها العشق.. وداعًا أنت طالق
رغم أن قلب الشعر لا يخلو من حبيبة، ولكن خطابه ليس خطابًا عاطفيًا صرفًا، وإنما هي الموجودة الساكنة بداخله:
جننت في شوارع المدينة
فمن يعيدني للبيت يا حبيبتي؟
ومن سيكمل الحروف في قصيدتي؟
والغول والعفريت
واقفان تحت شجرة الكلام
يخطفان كل نجمة تضيء
في مسارب الظلام
ويشعلان النار في أصابع
السكينة.
فأسئلة الشاعر لا تستطيع أن تجاوبها الحبيبة، لأنها ليست المعنية أو المخاطبة. فهنالك غول وعفريت يرصدانه ويقفان في طريق الشعر والكلام. فغنائيته ليست غنائية عاطفية، وإنما ذاتية نابعة من تجربته الحياتية الخاصة. فهي عاطفة ليست موجهة تجاه فرد واحد، أو حبيبة معينة. فالقصيدة عند الشاعر محمد نجيب محمد علي لا توجد منعزلة في تجربة عاطفية خاصة مغلقة، بل توجد وتتوجه نحو عدة علاقات متعددة ومختلفة تجمعه بالهم الإنساني في كل مكان وزمان:
قلت يا ملهمة
كيف ينتفض الحرف
في الوحشة المظلمة؟
ثم يشتعل القلب
بالنظرة المؤلمة؟
ثم ينفعل القلب بالنظرة الحالمة؟
لم يجبني أحد
كان قلبي يغازلني في الجسد
فشعره يمثل العلاقة الحميمة بين العام والفردي، وهو كما قال رامبو: (الأنا هي الآخر) في الشعر الخالد العظيم. وحتى الأشياء عندما تأتي في قصائده لها ترميزها العيني:
كل حجر، حجر
إلا الحجارة في أرض يافا
لها مثل كل الشجر
ثمر
فالحجر هنا دلالة على الأصالة والرسوخ. ويقول في قصيدة (إحباط آخر يأتي في زمن الضد):
ولماذا أتوجس شرًا
تأبط قلبي عشقًا وحديقة
نهضت من أعماق البوح قيامة
سقطت في زمن الإحباط حمامة
واشتعل الصبح حريقًا
الإيقاع السريع والسرد في قصائد “دم العاصفة”
إن للشاعر محمد نجيب محمد علي مقدرة هائلة في تسريع حركة الإيقاع في قصائده، وهي ميزة تطريبية عالية، تجعل القصيدة ذات نغم لحني خاص (القصائد المنغمة). وتدخل في ذلك تقنية التكرار الذي أفاد القصيدة في دفعها إلى الأمام، وفي تطريب المتلقي بإيقاعها اللحني الجميل. ومثال لذلك قصيدة (عن إلزا وذاكرة المدينة)، وهي من أجمل قصائد التفعيلة في الشعر العربي الحديث وأصبحت معروفة عند محبي الشعر في بلادنا:
ولا، ولا، تزملت عيوني
التي دعوتها لكي تكف عن ندائها
وعن هجائها وعن، وعن، وعن…
أما ترين كيف ناح بي دمي
وكيف صاح بي فمي
وكيف، كيف، كيف؟ يا حبيبتي
تهزني، تجزني، مقاطع الغناء؟
وهذه القصيدة تمثل النموذج الجيد للإيقاع السريع للنص، الذي تتسارع فيه الجملة الشعرية لتلتقي مشتاقة بأختها، في تداع عميق أقرب إلى التداعي في لغة الرواية والقصة. وهذا التداعي في أغلب قصائد شاعرنا محمد نجيب يحافظ ويسرع بالدفق الشعوري عنده، وهو يحاول الانتصار على الواقع الضائع في زيف المدن. ولعل ذكر المدينة في الكثير من قصائده في هذا الديوان وغيره، هو ما يمكن أن يطلق عليه النقد الحديث: (طغيان الحضور الوجداني المكثف لصورة المدينة الحديثة)، باعتبارها تجسيدًا لغربة الإنسان الروحية والاجتماعية، وتدل على ضياعه وانقطاعه عن التواصل الحي والعميق مع عالمه الداخلي. يقول:
جننت في شوارع المدينة
فمن يعيدني للبيت يا حبيبتي؟
فأسباب جنونه هي شوارع المدينة. ويقول في قصيدة (الزا وذاكرة المدينة):
سمعت صوتك الذي أعادني إلى مواقف
البكاء غائبًا وخائبًا، ألوذ في مضارب
الغناء، في المدينة التي تبيعني،
وتشتري قصائدي بلا ثمن
فالشاعر لا وجود له في المدينة لأنها “تبيع قصائده بلا ثمن”. ويقول في قصيدة (أناشيد المدينة الهاربة): “وأدعو جهارًا صعاليك هذه المدينة \ والمتعبين”.
والمدينة لها دورها الرؤيوي عند شاعر التفعيلة من جيل شاعرنا الكبير محمد نجيب محمد علي، وهي تعكس في مضامينهم طبيعة التحولات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحدث في الواقع الاجتماعي عند جيل السبعينيات والثمانينيات من شعراء التفعيلة الكبار. ومن التقنيات الشعرية الحديثة التي وردت في قصائد هذا الديوان، هو تقنية الاستخدام المكثف للسرد الحكائي. وهذا السرد يلائم حالة القصيدة وذات الشاعر، يريد به أن يسرد موقفه وحالته الداخلية وموقفه النفسي للآخرين، فيقول في قصيدته (أغنية لحالات غامضة):
غافلتني القصيدة
غيبت اللحن عني
فصرت أغني
ولا أسمع الصوت مني
وحتى دمي، خانني في دمي
تغير طعم الكلام الذي في فمي
فلمن أنتمي؟ وبمن أحتمي؟
فحالة القصيدة حالة شعرية سردية، فهو يحكي عن مغافلة القصيدة له، وتغييبها للحنه، وكيف صار يغني تائهًا، ولا يسمع صوته، وحتى دمه خانه في دمه، وتغير طعم الكلام، وقد أصبح لا منتميًا وبدون حماية. مستخدمًا الأفعال المتحركة في الماضي والمضارع، فالجملة الفعلية الساردة تطغى في هذه القصيدة على الجملة الاسمية الواصفة. وغالبًا ما يأتي سرده في صيغة الحاضر المستمر، وخاصة الفعل المضارع، الذي يوحي براهنية السرد، ويضفي على المشهد الشعري نوعًا من الحركة والحيوية، وكأن القارئ يعايش حركة ذلك المشهد ويحس بحرارة المحكي عنه.
يمكن أن نطلق على ديوان الشاعر محمد نجيب محمد علي (دم العاصفة) بأنه ديوان الشعر الغنائي، الذي يتميز في رومانسيته بالانفعالية، تلك المُعبَّر عنها بوضوح، ودون غموض، مع وجود الإحساس المصاحب للحالة النفسية للشاعر، متأثرًا بما حوله، ويمتلك القدرة على نقل هذا التأثر للآخرين، بمعنى قدرته على التأثير من خلال قدرته على التعبير. حينئذ يكون شاعرًا غنائيًا بالمفهوم الرومانسي. فالشعر الحق عند أهل تلك المدرسة المتجددة هو الذي يتوفر على شرطي الصدق والجمال. والصدق عنده يُعتبر مرادفًا للمعاناة الداخلية، بينما الجمال يُعتبر مرادفًا للقدرة على التعبير الفني الذي نقل هذا التأثر للقارئ المتلقي.
Leave a Reply