
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
الثقافة العربية ليست مجرد مجموعة من الكتب أو الزخارف اللغوية، بل هي شريان الأمة النابض وروحها المتوقدة التي تحدد وجودها أو انقراضها. إنها الميدان الأول والأخير للصراع، حيث تُحسم معركة الوعي قبل أن تُحسم معارك الميدان. ولأنها بهذا العمق، فإن فلسطين، وفي قلبها غزة، ليست مجرد مساحة جغرافية متنازع عليها، بل هي مختبر الحقيقة الكبرى الذي يطرح السؤال: هل تستطيع الأمة العربية أن تحمي جوهرها الروحي، وأن تبقي على جذوة ثقافتها مشتعلة وسط عواصف الهيمنة؟
الثقافة العربية ليست ركامًا من التراث يعلوه الغبار، بل هي وعي متجدد وثورة دائمة على النسيان والتبعية، ورفض صريح لكل ما يسعى لطمس هوية هذه الأرض. منذ أبيات المتنبي التي زلزلت أركان الطغاة، وحتى خطب الشهيد صدام حسين التي فجرت أحلام التحرر في الشوارع العربية، كانت الكلمة هي الطلقة الأولى، وكانت القصيدة والجملة المشحونة بالمعنى أكثر فتكًا من أي سلاح. واليوم، في غزة، تتجسد هذه الحقيقة بشكلها الأقصى، حيث يقف طفل يحمل حجرًا، ويُسقط به جدار الخوف، ويحوّل الدمار إلى لغة بقاء.
هنا، لا تكون الثقافة ترفًا ذهنيًا أو اقتناءً للرموز، بل هي سلاح بقاء يوازي البندقية. إنها القرآن المحفوظ في صدر طفل تحت القصف، والعلم الفلسطيني المرفوع على أنقاض بيت، والمسرحية التي تُعرض في زقاق مدمر لتقول: “الهزيمة العسكرية لا تعني سقوط الروح”. ولهذا أدرك الاحتلال الصهيوني الإمبريالي الغاشم مبكرًا أن السيطرة على الأرض تمر عبر مصادرة العقل، فحارب اللغة والتاريخ والمطبخ والأغنية، وسعى إلى إحلال روايته مكان روايتنا. لكن الثقافة العربية المقاومة، كما يراها حزب البعث، كانت دائمًا الجدار الأول الذي تتحطم عليه كل محاولات الأسرلة والتزييف.
مشروع حزب البعث الحضاري: الثقافة كجوهر للنهضة
مشروع حزب البعث الحضاري لا ينظر إلى الثقافة كملحق للسياسة أو الاقتصاد، بل كجوهر للنهضة وأساس للتحرير. هو مشروع لتحرير العقل من التبعية الفكرية قبل تحرير الأرض من الاحتلال، ولإحياء الرموز لا كتذكار جامد، بل كطاقة دافعة للمستقبل. فصلاح الدين ليس مجرد سطر في كتاب، بل معادل موضوعي لإرادة التحرير. وعمر المختار ليس تمثالًا، بل فعل مقاومة متجدد في وجدان الأمة. والشهيد صدام حسين ليس ذكرى تُستعاد في المناسبات، بل هو عهد متجدد بأن الكرامة أثمن من الحياة، وأن الشهادة طريق الأمة العربية إلى الخلود. في هذا المعنى، تصبح الثقافة هي الجبهة التي إن سقطت، سقط كل شيء، وإن صمدت، صمدت الأمة العربية كلها.
لكن الواقع الثقافي العربي اليوم يمزقه انقسام بين من يغرق في حنين جامد إلى الماضي، ومن يلهث خلف قوالب مستوردة لا تنبت في تربة هذه الأرض. كلا الطرفين يبتعد عن جوهر الفعل الثقافي الذي يتطلب إنتاج المعنى لا استهلاكه، والإبداع تحت الضغط لا الانبهار بالجاهز. غزة قدمت نموذجًا نادرًا لهذا، فحوّلت الحصار إلى محرك للإبداع، والدمار إلى مسرح، واليتم إلى مدرسة لصناعة الأمل.
غزة: عاصمة الثقافة المقاومة
في نهاية المطاف، الثقافة في رؤية حزب البعث ليست زخرفة للهوية، بل جهاد فكري ومعركة مفتوحة لا تُخاض في المكتبات فقط، بل في الشارع، وفي المدرسة، وفي ساحة القتال، وفي شاشة التلفاز، وفي قصيدة تُتلى على طفل لم ير من العالم سوى الحصار. وغزة، بهذا المعنى، هي عاصمة الثقافة المقاومة، حيث يتحول البقاء من مجرد تنفس إلى فعل صنع للتاريخ.
فإذا كانت الثقافة هي (ما يبقى حين يُنسى كل شيء)، فإن الثقافة العربية، بعمقها الروحي وثقلها الثوري، ستظل الضمانة الأخيرة لبعث الأمة العربية من تحت الركام، ولتحرير فلسطين – كل فلسطين – من النهر إلى البحر، لا كأرض فحسب، بل كقيمة كونية وحق إنساني خالد.
Leave a Reply