قراءة نقدية في رواية “أيام حي البوسطة” لمصطفى خالد مصطفى

صحيفة الهدف

فاطمة وهيدي- كاتبة مصرية

#ملف_الهدف_الثقافي

في روايته الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي لعام 2022، والصادرة عن دار روافد للنشر عام 2025، يرسم “مصطفى خالد مصطفى” لوحة سردية معقدة ومتعددة الأبعاد، عنوانها “أيام حي البوسطة”. رواية تتخذ من حي شعبي في السودان مسرحًا لتشريح العلاقات الأسرية، وتفكيك الموروث الثقافي والاجتماعي، واستنطاق العنف المقنّع الذي يختبئ خلف الأبواب المغلقة.

تقنيات السرد: تعدد الأصوات والرؤى

تُبنى الرواية على تعدد الأصوات النسائية، في اختيارات واعية تكسر النمط السردي التقليدي، وتمنح لكل شخصية حقها في البوح. تبدأ الأحداث بصوت “صباح” الابنة الكبرى لشادية، وتمتد إلى “جميلة” الأخت غير الشقيقة، والخالات “هنادي”، و”مستورة”، و”هادية” وغيرهن من النساء اللواتي يتقاطعن في السرد كما تتقاطع حيواتهن في واقع هشّ.

يتراوح السرد في الرواية بين أسلوب الراوي العليم والراوي الذاتي، وهو ما يمنح النص مرونة كبيرة، ويفتح مجالًا للتأمل العميق في دواخل الشخصيات. لا تسير الرواية وفق تسلسل زمني صارم، بل تعتمد على تداعي الذكريات والانزلاق في الماضي، وتكرار لحظات جوهرية من زوايا متقابلة. يخلق ذلك إحساسًا عميقًا بالتوتر الداخلي والدرامي، ويكسر فكرة “الراوي المحايد”، ليجعل من كل شخصية سردًا خاصًا بها، أشبه بمذكرة نفسية مؤجلة.

كل صوت في الرواية ليس مجرد وسيلة لسرد الوقائع، بل هو بمثابة مساحة للاعتراف، للصراخ الداخلي، للتفكير بصوت عالٍ، كما في صوت صباح حين قالت:

ساءَلْتِ نفسك كثيرًا: ألن يكون في مقدور أمي أن تعيش طبيعيَّة مثلنا إلا بهذا الدواء؟ (ص 9)

تبدأ الرواية بصوت “صباح” التي ترافق أمها إلى المصحة النفسية، لكنها في الحقيقة تفتح بابًا خلفيًا لذاكرة العائلة. صباح هي الناقلة والشاهدة، لكنها ليست محايدة، بل جريحة بصمتها، تسأل نفسها دومًا عن سر قسوة جدها، وعن جدوى مرافقة أمٍّ غارقة في سحب الهلوسة والشرود.

جدُّك لم يحاول تهدئة الموقف، كان يقول: “لازم نرجعها المصحّة.. البنت دي مجنونة شعبي ورسمي”، أنتِ وجميلة كنتما تنظران لما يجري بصمتٍ رهيب. (ص 11)

صباح لا تبكي، لا تشتكي، بل تحاول دومًا أن تبدو متماسكة، تُشبه السقف الذي يحاول ستر التصدعات، رغم الألم، تُصبح مرآة صامتة لكل الفتيات الأخريات.

جرح أمومي لا يندمل

من أكثر الشخصيات التي ترسخ في الذاكرة “شادية”، الأم المصابة باضطرابات نفسية نتيجة للعنف الأسري الممنهج. شادية ليست مجنونة بقدر ما هي ضحية منسية، تحمل فوق أكتافها بؤسًا متراكمًا من الذل والعنف والتجاهل، وهي المحور الذي تدور حوله الحكايات، لكنها لا تحكي إلا نادرًا. يتحدث عنها الجميع، وتُستعاد تفاصيلها في مقاطع كثيرة. أصيبت بمرض نفسي نتيجة زواج ومعاملة قاسية وضرب عنيف من والد جميلة، وحين لم تعد قادرة على المقاومة، ولا على التفسير، اكتفت بأن تسقط في الظل.

كل ما حدث لها ينعكس على بناتها، فكل واحدة تفسّر انهيار الأم على طريقتها، وتعيش ارتداداته بطريقتها أيضًا.

قلتِ في نفسك إنّ الشخص الذي يصاب بالمرض النفسي مُعَدّ مسبقًا كي يصاب بهذا المرض إذا مرّ بتلك الظروف المطلوبة، أحسستِ حينها بظلمٍ لأن قدر أمك مرسومٌ سلفًا منذ الأزل بمنتهى هذا الحزن. (ص 37)

ونجد أن الرواية تنقل صورة شادية كمأساة صامتة لنساء كثيرات، قد نعرف بالضبط متى بدأت، ولكننا لا نعرف متى يمكن أن تنتهي!


تجلي العنف في وجوهه الخفية والصريحة

في رواية أيام حي البوسطة، لا تسير النساء في ظلٍّ واحد، بل تتوزع حيواتهن بين الانكسار المستتر، والمواجهة اليائسة. فهنّ نساء وُلدن في عائلة يتناسل فيها العنف بصيغ متعددة؛ عنف لا يجلد الأجساد فقط، بل يخدش الأرواح أيضًا، ويورث الشعور بالنقص والخذلان جيلًا بعد جيل.

نرى شادية، الأم التي بات الجنون خلاصها الوحيد من حياة مزقتها قسوة الزوج وجدّ العائلة “فتحي”، ذاك الرجل الذي يصمها بالنحس، الذي يرى أنها ورثته من أمها هي وبنات العائلة، ولم ير فيها إلا منبعًا للفشل والمرض والعار. شادية ليست مجرد مريضة نفسية، بل ضحية نظام أبويّ جعل الجنون ملاذًا أخيرًا للنجاة من العنف المستمر، من الاحتقار، من فقدان الكلمة.

أما “هنادي”، فتقف عند تخوم عمرها كمن تقف على حافة صمت عميق، لم تُمنح حق الاختيار، ولا حتى مساحة الحلم، تخطت الأربعين، لا لأنها رفضت الزواج، بل لأن السياج الاجتماعي قد حاصرها، وحاصر نظرة المجتمع إليها كـ”عانس”، بينما كان قلبها معلّقًا بحب لا يُقال. قد يبدو العنف الموجه نحو هنادي عنفًا خافتًا، لكنه دائم، عنف تكرّسه المعايير الاجتماعية الظالمة.

ثم تأتي “مستورة”، بما تحمله من اسم يُخفي هشاشة الواقع، تعيش في فقر مدقع، تتنقل بين بيوت الإيجار كمن يتنقل بين محطات فقدان الكرامة. زواجها من رجل فقير لم يكن مأساة بحد ذاته، بل المأساة في شعورها الدائم باللا جدوى، بالهامشية، وبأنها لا تستحق أكثر. العنف هنا عنف اقتصادي واجتماعي، يجعل المرأة رهينة الحاجة، ومقيّدة بحبال لا تُرى.

تطالعنا الرواية أيضًا بصورة المرأة الحديثة، لكن حتى هذه لا تنجو؛ فزوجة ياسر تُدان بسبب خيانتها الافتراضية عبر “فيسبوك”، وتُختزل في صورة المرأة الساقطة، دون الغوص في دوافعها أو ما أوصلها إلى تلك العتبة.

وفي المقابل تظهر “هادية” كنموذج للاستقرار، لكنه استقرار مهدد بالمرض، وكأن الراحة لا تُمنح للنساء إلا بثمن، إما فقدان العقل أو الجسد.

كل هؤلاء النسوة، بمصائرهن المتقاطعة، يكشفن عن مدى تغلغل العنف في تفاصيل الحياة اليومية: عنف نفسي، عاطفي، اقتصادي، اجتماعي، وحتى رمزي، لا يُمارسه الرجال فحسب، بل تكرسه الأعراف، ويباركه الصمت، وتتوارثه العائلة، مما يجعل الرواية أشبه بمرآة لطبقات العنف المتداخلة.

في رواية أيام حي البوسطة لم يقدم “مصطفى خالد” نساءً مثاليات، بل قدم نساءً حقيقيات، يُثرن الأسى أكثر مما يُثرن الإعجاب، نساء لم يخترن أقدارهن، بل كُتب عليهن أن يحملن وزر تاريخ طويل من التهميش.

خاتمة

“أيام حي البوسطة” ليست رواية أحداث، بل رواية أصوات، رواية عن الصمت الممتد، وعن ضرورة البوح كي لا نموت كمداً. استطاع مصطفى خالد مصطفى أن يقدّم عملًا أدبيًا شديد الإنسانية، يُضيء العتمة التي نحبس فيها النساء، ويعيد الاعتبار للحكايات الصغيرة التي تصنع التاريخ الحقيقي.

لا يروي الكاتب الحكاية من خارجها، بل يجعل النساء أنفسهن يكشفن عن خيوط المعاناة التي تتكرر وتتشابك، في بناء سردي يعتمد على تعدد الأصوات والانغماس في التفاصيل النفسية والعاطفية.

الزمن والذاكرة: رغم أن الرواية لا تعتمد تسلسلًا زمنيًا خطيًا، فإن الزمن يُستعاد من خلال الذاكرة، لا كحنين بل كمواجهة. الشخصيات تسترجع الماضي لا لتتذكّره، بل لتحلّله أو تمزّقه. تسأل صباح عن الطفولة التي لم تُعاش، وتتأمل هنادي الغربة التي بدأت من البيت، وتنسف جميلة كل جسر مع العائلة. الزمن هنا ليس إطارًا للأحداث، بل ساحة صراع داخلي.

لغة الرواية تتميز بالبساطة الموحية، والانغماس في تفاصيل المشاعر، ولا تعتمد على المجاز أو الفخامة اللغوية، بل تنبع قوتها من الصدق والعفوية، والجمل قصيرة، المَشحونة بالمشاعر.

فنجد أن الحوارات الداخلية جاءت مباشرة، تكشف عن عمق الصراع النفسي دون تعقيد، مما يجعل السرد أقرب إلى مونولوجات داخلية حميمية.

نحن أمام رواية نُسجت على مهل، بلغة واعية، وصبر سردي، وعين ترصد الوجع. يستخدم الكاتب أحيانًا بعض المفردات من اللهجة السودانية، دون أن يُربك القارئ العربي، مما يُضفي على النص خصوصية محلية دون أن تفقده عالميته.

الغربة الداخلية والعزلة بين الجدران

الرواية تُظهر الغربة لا كرحلة إلى الخارج، بل كغربة داخل البيت الواحد، في علاقات الأمومة، والأخوّة، والزواج. وحين تسافر الشخصيات، فإنها لا تنجو من ذاكرة الحي، من عبء التاريخ الشخصي، من “حي البوسطة” الذي يلاحقهن كظل.

ومن سمات هذه الغربة عدم وجود علاقة واحدة مكتملة في الرواية، فكل العلاقات تتسم بالخذلان أو الجفاف أو الغموض.

حين نقرأ رواية أيام حي البوسطة نجد أنها ليست رواية عن النساء فقط، بل عن الصمت الطويل الذي يرافق الألم، وعن العائلات التي تكرر أزماتها دون وعي. تُحسن الرواية بناء شخصياتها من الداخل، وتمنحها فرصة للكلام حتى وإن كان الكلام متأخرًا أو ناقمًا أو مرتبكًا، وبينما لا تقدم الرواية حلًا أو نهاية مريحة، إلا أنها تضيء الزوايا المظلمة داخل البيت الواحد، وتترك القارئ أمام مرآة من الأسئلة التي لا تخص النساء فقط، بل تخص مجتمعًا كاملًا تربّى على كتم الألم وتزيين الجراح.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.