جيل التحطيم: فلسفة المنافسة القاتلة وتآكل ثقافة التعاون في المجتمعات العربية (نحن تبع لها)

صحيفة الهدف

إسماعيل مضوي

#ملف_الهدف_الثقافي

“هل نحن جيل التحطيم؟”

سؤال يتردد أحيانًا بسخرية، وأحيانًا بحزن خفي، وأحيانًا بصوت عالٍ يعبر عن واقع مؤلم: جيل تربى على أن لا فرصة إلا بإقصاء الآخر، ولا نجاح إلا بكسر زميله، ولا كرسي إلا بإزاحة كل من حوله.

لكن، ما المقصود بـ “لعبة الكراسي”؟ وما دلالات “تحطيم البالون في أرجل الخصم”؟ ولماذا أصبحت هذه الرموز الطفولية نموذجًا مصغرًا لمجتمع ينتج أفراده وهم مشبعون بثقافة التنافس السلبي بدل التعاون الإيجابي؟

رمزية اللعب: من الطفولة إلى التكوين القيمي

لا أحد منا ينسى لعبة الكراسي الموسيقية (Musical Chairs Game)، تلك اللعبة التي يُطلب فيها من الأطفال الجري حول مجموعة من الكراسي، وكلما توقفت الموسيقى، على الجميع أن يجد له مقعدًا بسرعة. في كل دورة، يُنزع كرسي، ويُقصى أحد اللاعبين.

هي لعبة بسيطة في الظاهر، مرحة للأطفال، لكنها تحمل في جوفها – بشكل لاواعي – منظومة رمزية لبنية التنافس القائم على الندرة (Scarcity-Based Competition): لا مكان للجميع، والنجاة للباقي.

كذلك، لعبة “تحطيم البالون في أرجل الخصم” (Balloon Stomp Game) التي يُربط فيها بالون في كاحل كل طفل، والمطلوب أن يحطم بوالين الآخرين قبل أن تُحطم بالونته. من ينجو هو من يحطم أكثر ولا يُحطم.

هل تساءل أحدنا يومًا: ما الذي تُعلّمه هذه الألعاب؟ وهل كانت مجرد لعب؟ أم أنها أدوات لاواعية لتشكيل نمط قيمي وسلوكي يُقدّس الفردية و”النجاة الذاتية” (Self-Preservation at All Costs)؟

من الترفيه إلى التلقين القيمي: دور الألعاب في تشكيل العقل الجمعي

تُبين نظريات التربية الحديثة، خصوصًا في مجال التربية النقدية (Critical Pedagogy)، أن ما يُعلّم للطفل من خلال اللعب قد يكون أعمق تأثيرًا من التعليم النظامي. فالألعاب لا تُمرَّر كـ”مادة تعليمية”، بل تُغرس في الوجدان كـ”خبرة وجدانية” (Affective Learning).

ومن هنا، يمكن فهم كيف تتحول ألعاب الطفولة إلى نموذج مصغر للعالم الخارجي، حيث:

  • الفرص محدودة: يجب أن تسرع وتحرم غيرك منها.
  • النجاح فردي وليس جماعيًا: فإما أن “تأخذ الكرسي” أو “تُقصى”.
  • الآخر هو المنافس وليس الشريك: لذا فإن تحطيمه ليس خطأ، بل “إنجاز”.

ثقافة التحطيم: من سلوك فردي إلى نمط اجتماعي

لقد تحولت هذه الرؤية إلى ما يمكن تسميته بـ”عقلية الكرسي” (The Chair Mentality). وهي عقلية ترى الحياة بوصفها “لعبة كراسي كونية”: كلما حصلت على فرصة، اعتبرها البعض سلبًا لفرصة زميلك. وكلما صعد أحدهم، طُعن آخر في الظهر.

هذه الثقافة تعمقت في كثير من المجتمعات العربية، نتيجة:

  1. الندرة الاقتصادية (Economic Scarcity): الفرص قليلة فعلًا، والبطالة مرتفعة، ما يخلق إحساسًا دائمًا بأن “النجاة للأقوى”.
  2. الضعف المؤسسي في العدالة (Institutional Injustice): غياب آليات تكافؤ الفرص (Equal Opportunity Systems)، يعزز ثقافة “ادفع نفسك، واسحق غيرك، أو ستُسحق”.
  3. نموذج القيادة الفردية (Heroic Leadership Culture): المجتمعات التي تحتفي بـ”الزعيم الفرد” وتهمش العمل الجماعي، تُخرج أجيالًا ترى في كل زميل “خصمًا” وليس “عضو فريق”.

البديل التربوي: من التحطيم إلى البناء المشترك

إن التربية الفلسفية الحديثة (Modern Educational Philosophy)، خصوصًا في مجال التعليم التشاركي (Collaborative Learning)، تدعو إلى إعادة تشكيل مفاهيم النجاح، والفرص، والتفوق، ضمن إطار يُعلي من قيمة الكل لا الجزء، والتكامل لا التنافس، والنجاح التشاركي لا الإقصائي.

فالفرصة ليست فوزًا بصفر-مجموعه (Zero-Sum Game)، بل يمكن أن تكون مضاعفة القيمة (Value Multiplication): نجاحك لا يُلغي نجاحي، والعكس.

العمل الجماعي (Teamwork) ليس مجرد شعار، بل ممارسة تحتاج إلى بناء تربوي يبدأ من الطفولة:

  • إعادة تصميم الألعاب لتكون تعاونية لا إقصائية (مثل ألعاب “النجاة الجماعية”).
  • تعليم الأطفال أن فوزهم لا يعني بالضرورة خسارة غيرهم.
  • بناء مناهج تعلم احترام الآخر، لا كخصم بل كـ”شريك إمكانات”.

ضحك على اللاشيء: قهقهات التحطيم وأوهام الفوز

والأخطر من كل هذا أن جيل التحطيم لا يشعر بفوزه الحقيقي. بل يجلس في النهاية ليقهقه، لا فرحًا، بل تهكمًا على خيبة مجتمع بأكمله.

تضحك على زميلك الذي أزحته، ثم تكتشف أن الكرسي الذي جلست عليه، كان نفسه لا يقود إلى شيء… ويا للمفارقة: نضحك – ساخرين – على “ضحايانا”، ونغفل أننا جميعًا كنا ضحايا لعبة واحدة، لم نختر قواعدها.

في الختام من التحطيم إلى التجاوز

لم يعد كافيًا أن نشخص ثقافة التحطيم. علينا أن نطرح بدائل، وأن نعيد تصميم المفهوم التربوي للفرص (Redefining Educational Opportunities). جيل التحطيم ليس قدرًا، بل نتيجة. ويمكن إعادة برمجته ليكون:

  • جيل التعاون بدل التنافس.
  • جيل التمكين بدل الإقصاء.
  • جيل يصنع كراسي للجميع، بدل أن يدور حول كرسي واحد مزروع بالألغام.

(قلت الليلة ما داير سياسة لكن النتيجة (فلترق كل الدماء) كل جيلي وما سبقه والكيزان برضو مننا وضحايا)…

أغسطس 2025م

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.