
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_المرأة_والمجتمع
المقدمة: (عندما تتحول الحياة إلى مقاومة هادئة تتحدى العدم): في فلسطين العربية المحتلة، حيث تُقايض النساء يوميًا ما بين الحصار والحنان، لا تُقاس البطولة بعدد الطلقات، بل بعدد المرات التي أعدن فيها تعريف معنى (البقاء). هناك، في المسافة الفاصلة بين أنقاض البيت وبين مائدة الطعام، تُولد مقاومة أخرى، مقاومة لا تُدوِّي في نشرات الأخبار، لكنها تسري في حليب الأمهات، في صوت الحكاية قبل النوم، في إصرار المدرسة على فتح أبوابها رغم الدمار. المرأة الفلسطينية لا تقف أمام العالم كضحية تبكي، بل كمبدعة تُشيد مستقبلًا من هشيم اللحظة. لا تُمارس الحياة بوصفها عادة بيولوجية، بل بوصفها احتجاجًا صامتًا على مشروع استيطاني يُريد أن يُفرغها من المعنى. هي تلدُ لا لأنها امرأة، بل لأنها تدرك أن كل طفل يولد، هو صفعة في وجه النسيان. وتُعَلِّمُ، لا لأنها موظفة، بل لأنها تعرف أن العقل الذي لا يُغْسَلُ، هو القلعة الأخيرة التي لا تُقصف. إن المقاومة ليست دائمًا ما يُرى. أحيانًا، تكون في الهمس، لا في الهتاف، في القِدْر، لا في المدفع. في الأغنية التي تُغنيها أم لطفلها بينما يُحلِّق فوقهما الطيران. في تلك التفاصيل اليومية التي تُبقي الفكرة حية حتى حين يُجْهَزُ على الجسد.
- الأمومة كجغرافيا للهوية وبيان ضد الإلغاء: (الرحم الذي يُقاوم المحو: الولادة كبيان وجودي): ليست الولادة في فلسطين فعلًا بيولوجيًا محضًا، بل إعلانًا عن استمرار الذات في وجه مشروع يُراكم الخرائط بدل الأجنة. كل طفل يولد هناك، ليس مجرد جسد جديد في عالم مكتظ، بل هو شاهد جديد على حقيقة يريدها العدو طي النسيان. الرحم الفلسطيني لا يلد من أجل العدّ السكاني، بل من أجل الاحتفاظ بالاسم، بالمكان، بالذاكرة. في المخيمات، حيث لم يبقَ من الوطن سوى الاسم، تتحول الولادة إلى فعل استعادة. يولد الطفل لا ليبدأ من الصفر، بل ليواصل سيرة قُطِعَتْ قسرًا. يولد وهو محمّل بمهام تاريخية، كأنه جندي في جيش صامت، مهمته الوحيدة أن يكون حيًّا، حاضرًا، غير قابل للمحو. فالجسد الأنثوي في فلسطين هو آخر ما تبقى من السيادة الوطنية.
- الطعام كأرشيف: (المطبخ الفلسطيني كمتحف للذاكرة الحية): حين تعد المرأة الفلسطينيةُ وجبة الزعتر والخبز، لا تطبخ فقط لتُطعم، بل لتُذكِّر. كل وصفة تُمارَس هناك هي فصلٌ من كتاب غير مكتوب. الملح، الزيت، السمن، القمح، ليست مكونات للغذاء فقط، بل عناصر مشهد زراعي مفقود، وشاهد على الأرض التي صودرت. المطبخ الفلسطيني ليس مكانًا منزليًا فحسب، بل هو خط دفاع رمزي، تُدار فيه معركة ضد التذويب الثقافي. الطهي هناك فعل من أفعال التذكر، والمائدة ليست فقط مساحة لتناول الطعام، بل لاستحضار القرى التي لم تعد، والحقول التي لم يعد أحد يزرعها. فعندما تهمس أمٌّ في أذن ابنها: (هذا الطحين من القمح الذي كنا نزرعه، قبل أن يصادروا الأرض). إنها لا تُلقِّنه وصفة طعام، بل تاريخًا لا مكان له في مناهج الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل. إنها تزرع فيه، عبر اللقمة، ذاكرة مضادة للمحو، وحنينًا سيُقاوم الإلغاء حتى وإن لم يرَ الأرض بعينيه.
- إنجاب المقاومة: (حين يصبح الطفل وثيقة ضد التهجير): إحصائيات غزة المذهلة – أن (78%) من النساء يعتبرن الإنجاب شكلًا من أشكال المقاومة – ليست دليلًا على فائض سكاني، بل على فائض إرادة. كل طفل هناك لا يُستقبل بترحيب عاطفي فقط، بل كأنه يقول للعالم: (ما زلنا هنا، رغم القصف، رغم الحصار، رغم الجدران، رغم التهجير، رغم التجويع). كل طفل هو (نعم) عالية في وجه كل (لا) يُطلقها الكيان الصهيوني المحتل: لا للعودة، لا للهوية، لا للبقاء. والنساء اللواتي يُنجبن تحت الظلال الكثيفة للطائرات لا يفعلن ذلك من باب التحدي فقط، بل لأنهن يعرفن أن مشاريع الاحتلال تفشل حين تصطدم بقدرة الأم الفلسطينية على الاستمرار.
- الثمن الخفي: (كلفة المقاومة اليومية): وراء كل طفل يولد، وكل وجبة تُحضَّر، وكل درس يُدرَّس، ثمنٌ لا يراه العالم. النساء الفلسطينيات يدفعن ضريبة مقاومتهن الخفية في شكل: أ. الاعتقالات: وفقًا لتقرير هيئة شؤون الأسرى (2023)، تُعتقل سنويًا (150) امرأة فلسطينية، (80%) منهن أمهات، حيث يُستخدم أطفالهن كرهائن للضغط عليهن. ب. الصحة النفسية: دراسة جامعة بيرزيت (2022) تشير إلى أن (65%) من الأمهات في غزة يعانين من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب الخوف الدائم على أطفالهن. ت. التضحية بالذات: كثيرات يُفضِّلنَ تأجيل علاج الأمراض المزمنة أو التعليم العالي لضمان بقاء الأسرة. هذه المقاومة ليست بطولة مجانية، بل هي اختيار يومي بين البقاء والانهيار.
- كيف يُطهى التاريخ: (المطبخ كذاكرة مقاومة): في غياب الأرشيف، تتحول الملعقة إلى أداة حفظ. يُعلِّمُ الطعام الفلسطيني الأبناء أكثر مما تفعل كتب التاريخ. الزعتر يصبح هوية، والميرمية ذاكرة مقاومة. وحين تُعد الأم من جنين صينية (كُسْكُس)، فهي لا تُرضي جوعًا بيولوجيًا، بل تُشبِعُ جوعًا رمزيًا إلى أرض لا تُنسى. وفي كل مرة تُنقِّي الأمهات العدس، أو تفركن أوراق الملوخية، فإنهن لا يُعِدْنَ وجبة، بل يُجَدِّدْنَ عهدًا. هذه المقاومة ليست حكرًا على فلسطين، ففي كل أرض عربية محتلة أو منهكة، تُعيد النساء تعريف البطولة. العراقيات، اللواتي عشن تحت حكم وطني ثم تحت الاحتلال، خُضْن معركة مماثلة لحفظ الهوية. وفي السودان، حيث أطلقت النساء شرارة انتفاضة ديسمبر الثورية (2018)، تحولت الأمهات إلى قائدات للثورة، يُدَرِّسْنَ فنون المقاومة السلمية بينما يطبخن للاعتصامات. لم ينتظرن الحرية، بل صَنَعْنَهَا بأيديهن – من اعتصام القيادة العامة إلى لجان المقاومة الأحيائية. وفي معسكرات النزوح حيث تشتد وطأة الحرب، تتحول الأمهات السودانيات من ضحايا إلى صانعات للبقاء. بين خيام اللجوء التي تقاوم الرياح، يقمن بتنظيم (مدارس الرمل) تحت الأشجار، ويوزعن القليل من الطعام على الأكثر حاجة، ويكتبن شهادات الولادة على أوراق مستعملة كي لا يُمحَى أطفالهن من سجل الوجود. هُنَّ من يحفظن أسماء القرى المحترقة في أغانٍ يرددنها للأطفال، كي لا تموت الذاكرة مع موت الجدران. في هذه المساحات القاسية، تُعيد المرأة السودانية تعريف المقاومة: ليست بالضرورة مواجهة الدبابات، بل هي القدرة على خلق الحياة حيث لا يوجد سوى الموت. أما في سوريا، حيث مزقت الحرب نسيج الوطن، وقفت النساء كحارسات للحياة. السوريات حوَّلْن الأنقاض إلى مدارس، والخوف إلى أغانٍ للأطفال، والشتات إلى منصات للتوثيق. لم تكن المقاومة هنا خيارًا، بل ضرورة يومية للبقاء.
- من فلسطين إلى العراق: (الأمومة كخيط مقاوم يخيط الجغرافيا): ليست فلسطين وحدها التي حولت النساء فيها الذاكرة إلى سلاح. ففي العراق، حيث الاحتلال الأمريكي دمّر البنى التحتية عام (2003)، وجدت النساء أنفسهن أمام معركة مماثلة، في حفظ الهوية من التذويب. بينما تقاوم الفلسطينية بالميلاد والتعليم، قاومت العراقية بالحفاظ على التراث واللغة، حتى تحت القصف.
- المرأة العراقية كذاكرة مقاومة في ظل الحكم الوطني: في العراق، حين كان الوطن لا يزال يقف على قدميه، لم تكن المرأة عنصرًا تابعًا في مشروع الدولة، بل كانت أحد أعمدته. في ظل الحكم الوطني، لم تكن العراقية تُعرَّف فقط بكونها (أمًّا) أو (زوجة)، بل بوصفها مواطنة تحمل بندقية إذا دعت الحاجة، وتُمسك القلم لتكتب، وتُعلِّم، وتُدير. حيث كانت تُدَرِّسُ في الجامعات، وتقودُ الطائرات، وتُشَرِّعُ في المجلس الوطني، لا كاستثناء، بل كقاعدة لرؤية تؤمن أن تحرر المرأة هو ركن في مشروع تحرر الأمة العربية. لم تكن مجرد مرافقة للرجل، بل ندًّا له في ساحات البناء والدماء معًا. وحين حُوصرت البلاد، لم تَخْفُت هذه الشعلة، بل كانت تُطَرِّزُ الرايات بانتظار العودة، تُدَرِّبُ أبناءها على اللغة الفصيحة، وتُخْفِي الكتب المحظورة بين ملاءات الأَسِرَّةِ. كانت هي الجدار الأخير حين انهارت جدران كثيرة. فكما حملت بندقية القتال، حملت الطفل بيد والكتاب بالأخرى، وعلمتهم أن الوطن والأمة العربية ليس مساحة فقط، بل كرامة لا تُساوَم.
- المرأة العربية المقاومة في خرائب الانهيار: في أكثر من قُطْرٍ عربي، حين تمزقت الجغرافيا، وانهارت الأنظمة، وعمّ الجوع والدم، وقفت المرأة لا لتحمي بيتها فقط، بل لتحرس المعنى. في سوريا، والسودان، والمغرب العربي، واليمن، وليبيا، ولبنان، في مخيمات اللجوء ومناطق الاشتباك، أصبحت الأم هي المُشَرِّعَةُ، والمعلمة، والطبيبة، والمقاتلة بصمت. المرأة العربية حين تُسلب منها الدولة، لا تتبخر، بل تتحول إلى دولة صغيرة تمشي على قدميها، دولة تحفظ السجلات، وتحرس الطفولة، وتُغني للأرض، وتخبئ البوصلة تحت الثياب. لم تنتظر إعلان (الهدنة)، بل أعلنت أن وظيفتها الأساسية هي: البقاء. والبقاء، حين يكون نقيض الفناء، يصبح فعل مقاومة لا يُكتب في بيانات، بل يُحفر في قلوب الأبناء.
- التعليم كجبهة وعي تحرري: (المدرسة كخندق أخير: لماذا يخشى المحتل دفتر تلميذة؟): ليست الحقيبة المدرسية مجرد وعاء للكتب، بل صندوقًا للمعنى، يحمل بين دفتيه ما يخشاه المحتل الصهيوني أكثر من الرصاصة، وهو السؤال. فالفلسطينية الصغيرة، وهي تخط اسم قريتها المهدومة على صفحة الدفتر، تُمارس فعلًا أخطر من المواجهة العسكرية، إنها تُطالب بالذاكرة. الاحتلال لا يُقلقه صوت الرصاص وحده، بل ما ينبثق في صمت الصفوف، في رسم خارطة الوطن على هوامش الدفاتر، في درس التاريخ الذي تُلقنه الجدة بديلًا عن المناهج الممسوخة. فحين تُقصف المدرسة، لا يُقصف المبنى فحسب، بل يُستهدف المعنى. لكن الفلسطينيين يُعيدون تشكيل الدرس من الأنقاض، كما يُشكل النحات ملامح الروح من حجر مكسور. (كل صفٍّ يُهدَم، يُصبح شجرة نعلق على ظلها خريطة ونشرح من جديد). ذلك لأن التعليم في فلسطين ليس مؤسسة، بل فعل مقاومة يومي، قائم على القناعة العميقة بأن الأرض لا تُستعاد فقط بالسلاح، بل بالفكرة.
- الجامعة كمحراب للمساءلة: (القانون كمنصة عدالة مؤجلة): في قاعات الجامعات المحاصرة، لا تكتب الطالبات الفلسطينيات أطروحاتهن لرفوف المكتبات، بل كأنهن يُقدِّمْن دفوعات شعب بأكمله أمام محكمة لم تُعقد بعد. القانون هنا لا يُدرَس كأداة مهنية، بل كعتبة لعدالة مؤجلة، وكخطاب نقيض للاحتلال القائم على شرعنة الطمس. هكذا تُحوِّل الفتاة الفلسطينية جروحها إلى حُجَجٍ، وأوراقها إلى أسلحة، وعزيمتها إلى منصة نطق بالحقيقة في عالم اعتاد الصمت.
- الجسد كجدار: (حين تقف النساء حيث تنهار الجدران): حين تتهاوى جدران المدرسة أمام جرافات الاحتلال، تقف الأمهات صفًّا متماسكًا، لا يحملن سلاحًا، ولا يهتفن، لكن صمتهن يُربك. جسد الأنثى هنا ليس موضوعًا للاستهداف، بل موضوعًا للحماية، للسدّ، للوقوف بين المعرفة والفناء. امرأة تقف أمام البلدوزر لا لتحمي الطوب، بل لتحمي المعنى، لتقول: (هذه المساحة ليست قابلة للمحو، لأنني أنا الجدار الآن). مقاومة أجسادهن لا تعني فقط التحدي، بل إعادة تعريف المفهوم ذاته، بأن الجدار قد يكون لحمًا وعظمًا، لكنه في عمقه وعي لا يُخترق.
- البيت كمدرسة موازية: (حين تُدرَّس الحرية من تحت الأنقاض): عندما يسقط سقف الفصل، يُعاد تشكيل الصف على بساط، في ركن البيت الذي لم يُدَمَّر بعد. تُمسك الأم بيد طفلها، وتبدأ بدرس لا يحتاج إلى سبورة، وتُخبره أن المجدل لم تكن أسطورة، وأن يافا ليست ذكرى، وأن هذا الوطن لا يُختصر بخط الهدنة، بل يمتد في اللغة، في الرغيف، في القصة. في ظلال الأنقاض، ينجو الكتاب الوحيد الذي لم تبتلعه النيران، فيتحول إلى كنز. تقرأ الأم بصوت خافت، لا لأن الصوت يجب أن يظل منخفضًا، بل لأن المعنى حين يكون عميقًا، لا يحتاج إلى الصراخ.
- المرأة في فكر حزب البعث والرسالة الخالدة: في فكر حزب البعث، لم تكن المرأة موضوعًا اجتماعيًا يُعالَجُ ضمن خانة (قضايا الجنسين)، بل كانت بُنية أصيلة في مشروع النهضة القومية. إنها ليست تابعًا ثقافيًا للرجل، بل نواة للوعي، وراعية للهوية، ومُحَرِّكَة للمجتمع نحو هدفه التاريخي، في الوحدة والحرية والاشتراكية. حزب البعث يرى أن تحرير المرأة ليس امتيازًا، بل واجبًا قوميًا، لأن الأمة التي تُقصي نصفها، تُقصي نصف مستقبلها. ولذلك، فإن المرأة – لا سيما في ظل الاحتلال أو الهيمنة أو الفقر – ليست فقط كائنًا يُنْقَذُ، بل هي ذات تُنْقِذُ. إنها في الرسالة الخالدة ليست فقط الأم التي تُنْجِبُ أبناء الأمة العربية، بل هي المُعَلِّمَةُ التي تُربِّي رجالها، والمُنَظِّرَةُ التي تفهم التاريخ، والمناضلة التي تُحْسِنُ قراءة الخرائط. ولهذا، فإن كل امرأة تُربِّي على الحق، وتُعَلِّمُ على الوفاء، وتُبْقِي البوصلة مشتعلة، إنما تُمارس فعلًا بعثيًا، حتى وإن لم تكن في صفوف الحزب. الخاتمة: في مشروع استعمار استيطاني يقوم على تجريف الأرض، وتدمير الحجر، وتزييف الرواية، لا شيء أخطر من امرأة تزرع المعنى في قلب الحياة اليومية. إنها لا تقاتل بنفس أدوات الخصم، بل تُبطلها بأدوات لا يملكها مثل: الحليب، القصيدة، الذاكرة، الصبر، والتكرار الحنون للهوية. المرأة الفلسطينية لا تلد طفلًا فقط، بل تلد اللغة، وتُربِّي التاريخ، وتُؤَسِّسُ المستقبل بما يُفْشِلُ رواية العدو. وكل درس تُدرِّسُهُ، أو طبخة تُعِدُّهَا، أو قُبلة تمنحها، هو عمل رمزي مقاوم، لا تَصِفُهُ قوانين الحرب، لكنه يُحَدِّدُ مَصِيرَهَا. في فلسطين العربية، الثورة لا تنطلق فقط من فوهة البندقية، بل من حنجرة طفلة تقرأ، ومن أمٍّ تُعَلِّمُ، حتى في العتمة.
Leave a Reply