المرأة القومية: إعادة تعريف دور النضال النسوي في المشروع القومي

أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

#ملف_المرأة_والمجتمع

تمهيد:

لا يمكن لأمة أن تتحرر، بينما نصفها لا يزال مُكَبَّلًا بأسلاكه الثقافية والاجتماعية. هذا المبدأ لم يعد مجرد شعار، بل صار اختبارًا صارمًا لصدقية أي مشروع تحرري في الوطن العربي، وعلى رأسه المشروع القومي. فالمرأة القومية لا تقف على الهامش ولا تلوّح برايات التأييد من بعيد، بل تتقدم الصفوف، وتُعيد تعريف بنية النضال نفسه، من تحرير الأرض إلى تحرير الوعي، ومن كسر الاحتلال الخارجي إلى تفكيك التواطؤ الداخلي مع أشكال التهميش والاستلاب.

لقد مرت المرأة العربية بتجارب نضالية متنوعة، لم تكن دومًا تحت الأضواء، لكنها كانت حاسمة في تشكيل خريطة الوعي الجمعي. لم تكن المرأة في بدايات الحركة القومية مجرد “أخت الشهيد” أو “زوجة المناضل”، بل كانت، رغم القيود، شريكة في بناء مفاهيم التحرر، حتى وإن لم تُنسب إليها هذه الأدوار علنًا.

بيد أن الموجة الجديدة من النضال النسوي القومي تمثل تحولًا نوعيًا، فلم تعد المرأة تطالب بالتمثيل، بل بالقيادة؛ لا تسعى إلى تعديل موقعها داخل الخطاب القومي، بل إلى إعادة بناء هذا الخطاب من جذوره، لتصبح الأمة العربية – في ذاتها – أكثر قدرة على أن ترى ذاتها كاملة، لا مبتورة.

تحرير الأمة يبدأ بتحرير المرأة:

إن إعادة تعريف النضال النسوي داخل المشروع القومي لا يعني حصر المرأة في قضايا “الجندر” أو “التمثيل السياسي”، بل العكس، هو توسيع مفهوم الأمة العربية ليشمل أبعادًا غُيِّبَت طويلًا. فكما لا يمكن الحديث عن التحرر دون مقاومة الاحتلال، لا يمكن الحديث عن مشروع قومي فاعل دون مقاومة التهميش. وهذا ما تجسده المرأة القومية، في وعي مزدوج بالاضطهاد الطبقي والجنسي، وبالاستعمار الخارجي والداخلي، بالهوية المقموعة وبالحق في سرد الذات دون وصاية.

نماذج من النضال النسوي القومي:

  • العراق (1968-2003): تمثل تجربة الحكم الوطني في العراق نموذجًا جدليًا معقدًا، لكنه بالغ الأهمية. ففي ذلك السياق، لم تكن المرأة مجرد ديكور سياسي، بل جرى الدفع بها إلى مؤسسات الدولة والبعثات التعليمية والدوائر الدبلوماسية، كما سُمح لها بقيادة قطاعات جماهيرية كاتحاد النساء وتشكيلات التعليم والإعلام، دون أن تُختزل أدوارها في الخدمات أو “التمثيل الرمزي”. كان ذلك جزءًا من مشروع قومي يعتبر أن تحرير الأمة العربية يبدأ من المدرسة، ومن القانون، ومن الوعي الاجتماعي. فرغم طابع النظام الأيديولوجي، فقد ساهم في نقل المرأة من الهامش إلى المركز – حتى لو بقي هذا الانتقال محكومًا بحدود سياسية. لكن مع ذلك، لم تكن الجامعيات أو العاملات أو الفاعلات السياسيات مجرد أدوات تنفيذ، بل كثيرات منهن شاركن في بلورة خطاب وطني مقاوم للتطبيع والهيمنة، وربطن بين السيادة الوطنية والسيادة على الجسد والكرامة الاقتصادية.
  • الجزائر: حملت المناضلات السلاح خلال الثورة، ثم تحوّلن بعد الاستقلال إلى نساء بناء وتنظيم، لكن كثيرًا ما تمّ تهميشهن في صياغة السياسات، مما خلق انقسامًا بين صورة المرأة الثورية، وواقع المرأة المقموعة.
  • السودان: تمثل المرأة إحدى القوى الأكثر راديكالية في انتفاضات ما بعد (2018)، إذ تجاوزت الأطر النقابية والتقليدية لتقود مجالس المقاومة وتؤسس شبكات نسوية تناضل من أجل الحرية والكرامة على الأرض، لا في الورق فقط.
  • تونس ولبنان: ظهرت مبادرات تقاطع بين المطالب الاجتماعية والنسوية والقومية، تؤكد أن المرأة لم تعد تكتب الهامش، بل تُعيد كتابة النص السياسي من موقعها.

تحديات وآفاق:

لا يزال هذا التحول لا يخلو من التحديات. لا تزال الأحزاب القومية الكبرى مأسورة ببنى ذكورية، تنظر إلى قضايا المرأة كترف أو كملف لاحق. ولا تزال بعض الحركات النسوية، تقطع الصلة بين تحرر المرأة وتحرر الأمة العربية، فتنتج خطابات “معولمة” تنزلق بسهولة إلى سرديات استعمارية جديدة تتحدث عن “إنقاذ المرأة” بينما تدعم في الوقت ذاته احتلال أرضها.

هنا تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته بـ”النسوية القومية” – لا بوصفها أيديولوجيا، بل كإطار مفهومي يؤمن أن تحرر المرأة لا يتحقق إلا ضمن مشروع تحرري شامل، يحارب الاستبداد السياسي كما يحارب التبعية الاقتصادية والاحتلال الصهيوني معًا.

فمن حق النساء أن يشاركن في إعادة كتابة الدستور، لا فقط في التصفيق له. من حقهن أن يحددن معايير الأمن، لا أن يُختصر أمنهن في بند قانوني هش. من حقهن أن يرفعن صوتهن داخل المنصات السياسية، لا أن يكن مجرد زينة ديمقراطية تُرفع صورتها بينما يُخنق صوتها.

إن الأمة التي لا تستمع لنسائها، لا تسمع مستقبلها. والمرأة القومية لا تنتظر دعوة لتشارك، بل تبادر، وتقود، وتفتح طرقًا لم تُرسم بعد. في فلسطين، لا تنفصل المناضلة عن الأم، ولا المُعلمة عن الناشطة. وفي العراق، لا تزال آلاف الخريجات الجامعيات، والممرضات، والمعلمات، يحملن عبء إعادة بناء ما هدمته الحروب والحصار والاحتلال. في سوريا ولبنان واليمن، والسودان، والمغرب وتونس والجزائر تتصدر النساء مشاهد التضامن، ويُعِدن بناء المجتمعات المنهكة، من الحارات الشعبية إلى ساحات النضال الرقمي.

هذه ليست حركة نسوية عابرة. إنها لحظة إعادة هيكلة للوعي القومي ذاته، من الداخل. لحظة تُسائل السؤال القديم: من نحن؟ وتضيف إليه: ومن نحذف حين نجيب؟ المرأة القومية لم تعد تسأل: ما موقعي؟ بل تقول: ما شكل المشروع الذي يليق بي وبأمتي العربية معًا؟ مشروع لا يُقايض حريتها بالوطن وبالأمة العربية، ولا يضع هويتها رهينة تقاليد أو شعارات جوفاء.

إن لم تتحرر الأمة العربية بلسان امرأة، فستظل لغتها مبتورة. وإن لم تتحرر نساؤها بوعي قومي، فستبقى معاركها مجزأة. والمشروع القومي، إذا أراد أن ينجو من الموت الرمزي، فعليه أن يولد من جديد – بصوت أنثوي، لا يعتذر عن حضوره، بل يطالب بالزمن القادم كله.

(ستكون ثورتنا القادمة أنثى: أو لن تكون) – لا كمجرد شعار، بل كاشتراط وجود.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.