
بقلم: ميرغني سوار الذهب
#مختارات_الهدف
#آراء_حرة
سألني زول: “بتعرف وجدي صالح؟”
قلت ليه: ربما أكثر قليلًا مما يعرفه ناس بيتهم.
وجدي صالح… لا حول… ياخ!
كنت معاه في المكتب لشهور طويلة أيام النضال السري والمطاردات في مكتبه في قلب السوق العربي.
هذا الرجل بعثي (صميمي) في لهيب إيمان محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي، وحنكة وذكاء المفكر على الريح السنهوري، وصمود بدر الدين مدثر القائل: (الشعب أقوى والردة مستحيلة)، وشجاعة وبطولة شهيد الأمة القائل وهو على بعد ثوانٍ من الموت قبل اغتياله ما ظل يردده وهو طالب بالثانوي: (عاشت الأمة، عاش الشعب، يسقط العملاء)، ثم ختمها بالشهادة: صدام حسين، ومن غيره!! وهذا الفيديو شاهده ربما أكثر من ملياري شخص بلغات وترجمات مختلفة.
في أول أيام جلوسي مع الأستاذ وجدي سألته، وكنت وقتها مما يعرف بكوادر العنف، فسألته: (ليه يا أستاذ ما نشيل سلاح؟ النظام دا شكله ما بيتغير بالشعب). فقام ضحك ضحكة صغيرة كده وأتذكر قال لي: (يا رفيقي، حمل السلاح ضد أي نظام دا أكبر هدية ليه؛ إنو يوطن نفسه كنظام وطني ويغربك كقوة خارجية غازية، فهمتني؟).
قلت: ما شديد والله.
قال: طيب أشرح ليك. الحزب يا رفيق ما غالبو يحمل سلاح ويقاتل زي ما بيقاتل في الأمريكان في العراق، لكن إنت بتقاتل المحتل، ديل سودانيين، نسقطهم بجماهير شعبنا بس، بعد شهر أو سنة أو عشرين، بيسقطوا. إرادة الجماهير لا تُقهر. ما عندنا إيمان لا ببندقية ولا بسفارة ولا بقوة خارجية. الشعب هو البندقية، والسلمية أفتك سلاح.
لمن قال جملته في المؤتمر الصحفي: (نعم نحن بنخاف من شعبنا ونجله، ومن لا يخاف من شعبه يجب أن لا يتبوأ منصب خدمي) اتذكرت كلامه.
وجدي صالح السياسي، خلوهو، نتكلمكم عن قيم ومثل وأخلاق هذا الرجل البعتبره أخ لم تلده أمي…
وجدي صالح اتعلمت منه دروس في الأخلاق لا يمكن أنساها.
أول درس: (أغلب) المحامين كانوا بيستعينوا بسكرتارية بنات، غالبًا بيكونوا جميلات. أول يوم جيت المكتب استقبلتني السكرتيرة، وكانت زولة في غاية اللطافة ومن ذوي الاحتياجات الخاصة. عرفت إنو شغلها مخصوص لظرفها الصحي، شغلانية سهلة وغير متعبة مع وضعها الصحي. فقلت: يا ربي لو كل المدراء شغلوا ناس سكرتارية من ذوي الاحتياجات الخاصة، مش كان وظفوا الكثيرين منهم؟
مرة، في زول اتعرف بأستاذ وجدي عن طريق محامي في نفس العمارة. جاتو فرصة يشتري عربية تكسي، وطلب من أستاذ وجدي يسلفه مبلغ وكتب ليه شيك. أستاذ وجدي، برغم إنو علاقته بيه ضعيفة، لكنه افتكر إنو العربية حتفتح ليه باب رزق. فقال ليه: خلي شيكك معاك، وبكرا تعال استلم القروش. لكن الزول أصر إنو يخت الشيك قبل يشيل القروش. كان واعده إنو يرجع القروش بعد شهر بالضبط لأنه عنده صندوق. فات الشهر، والتاني، والسادس، وفي السابع بقى يقفل تلفونه.
قلت لي أستاذ وجدي: ودي الشيك، دا زول مستهبل، خليه يتسجن.
قال لي: الناس ظروف، والزول عنده عيال. أستفيد شنو لو سجنتو؟ المهم، يوم مشيت معاه، انتظرنا جم بيت الزول مع المغرب تحت شجرة، قاعدين في العربية، شفنا الزول دخل بيته. مشى أستاذ وجدي، دق الباب، جات بنته، قال ليها: نادي لي فلان.
قالت ليه: مافي.
قال ليها: في منو؟
قالت ليه: أمي.
فقال ليها: ناديها. جات زوجته، سلم عليها، قال ليها: نادي فلان. قالت ليه: ما رجع لسه. أستاذ وجدي بقى ينادي بصوت عالي ونحن في مدخل الباب في الحوش: “يا فلان، تعال طالع، أنا شفتك داخل وإنت شايل كذا في يدك، اطلع يا فلان”.
الزول جا جاري طالع علينا.
أستاذ وجدي قدم لينا كلنا درسًا أخلاقيًا لا يمكن ننساه:
“يا فلان، ليه تكذب وتعلم بنتك وزوجتك الكذب؟ لو علمتهم الكذب، تاني راجي منهم شنو؟” وعاين للبنت، قال ليها: “أبوك دا صاحبي، بس حساس شوية، خجل مني، أنا ذاتي لمن أفلس، بتسلف منو، لكن ما بزوق، لكن هو حساس”. وعاين لزوجته، قال ليها: “إياك تكذبي تاني، علمي أولادك الصدق، حياتهم لمن تقوم على الصدق، حتفخروا بيهم”.
وطلع الشيك من جيبه، قال ليه: “مش دا الشيك؟” فقام شرطه وأداه ليه في يده مشرط، وقال ليه: “المسلم ما بكذب يا فلان، على بالطلاق تاني ما أسألك من القروش، لقيت جيبها أو ما لقيت، عافيها ليك لوجه الله، بس ما تكذب وما تعلم ناس بيتكم الكذب”. شعرت جلدي وقف، أنا ما تخيلت رد فعله يكون كده.
تاني يوم، الساعة 12 بالضبط، الزول جاب القروش.
مرة كنا محصلين جنازة، أنا سايق عربيته ومستعجل، فـ”كسرت الإشارة”. هو كان ماسك موبايله، وانتبه لحظة أنا خلاص قطعت، إنها حمراء، فقال لي: جنب. واتكلم معاي بلغة صعبة: “كيف تكسر الإشارة؟ ودا عدم احترام للقانون، وإنت بعثي، كيف عاوز تقدم نموذج للتانيين كبعثي جيد، وتعرض حياتنا وحياة التانيين للخطر…”. والله، محاضرة نص ساعة، بقيت قدر السمسمة. فقال لي: “انزل، تعال بي جاي”. وركبته كانت واجعاه، فقلت ليه: “يا أستاذ، ركبتك واجعاك”. فقال لي: “ركبتي هينة، إنت عملت لي وجع قلب بتصرفك الأخرق دا”. ومن يومها، بقيت لو وقفت الساعة 3 صباحًا والشارع ما فيه نملة، ما بقطع إلا الإشارة تفتح.
ما غريب، لأنه طالع من بيت مربيهم تربية أخلاقية عالية، تهذيب ما عادي ياخي. ويعلم الله، أكتر كادر مهذب وأخلاقي ومحترم، وبيناقشك بموضوعية ووثائق، هو شقيقه الأصغر رفيقنا محمد صالح عبده، خريج الأهلية، ومعروف لكل المعارضين في زمننا الكنا في الجامعات.
وجدي صالح كان من أكبر المحامين البيدافعوا عن الطلاب المعتقلين من كل الأحزاب، بالذات طلاب دارفور وجبال النوبة، وقد ساهم في الدفاع عن عشرات القضايا، لأنه هم بالذات، كان بيقول: لظروف الحرب قد ما يكون عندهم القدرة المالية، فكان بيترافع في المحاكم دفاعًا عنهم مجانًا. وللأمانة برضو، الأستاذ ساطع الحاج ونبيل أديب وغيرهم من الشرفاء.
وجدي صالح مكتبه كان فاتح للمحتاجين والفقراء: دا يجي عاوز حق رسوم جامعة، يدفع ليه مع مساهمة بعض الرفاق. وداك عاوز حق تذكرة سفر للولايات. وداك في الداخلية مصاريف الأهل ما وصلت من الولايات. تجي الصباح الساعة عشرة، صحن الفول المزبط والعيش، أي زول يأكل.
حكت لي سكرتيرة الأستاذ، لما قلت ليها: “جوال الأستاذ اتسرق”، قالت لي: “بيني وبينك، ما اتسرق، هو باعو لأنه ليه فترة الشغل واقف، والدين للمطعم بقى قروش كتيرة، فباع الموبايل وسدد ثمن إفطارنا كل يوم في مكتبه، وقعد بدون موبايل فترة”.
وجدي صالح، يشهد الله، ما جيت يوم المكتب لقيته مكشر، دائمًا مبتسم في وجوه ضيوفه بالمكتب، هاش وباش، ويداعب الناس بالطرف والقصص البتلقى فيها حكمة. ما حصل شفته بيتكلم إنجليزي، اها يوم جيت داخل، سامع ليك أستاذ وجدي داقي إنجليزي زي الرصاص، وشكله كمان مع محامي خواجة. استغربت جدًا، لأني كنت فاكر نفسي بعرف إنجليزي، ومن يومها بقيت عامل حسابي في الفونوتيك 😅.
وجدي صالح هو ابن المعتقلات منذ كان طالب قانون بفرع القاهرة بالخرطوم. ما شفت صاحب صوت جهور، وربما من أميز المتحدثين الطلاب الأنجبتهم المعارضة.
ركن وجدي للنقاش، الطلاب ما بيلقوا مكان يقيفوا، فكانوا بيطلعوا فوق البينشات.
مرة في المعتقل، جاهم مرور ضابط الجهاز عبد الغفار الشريف، فقال ليه أستاذ وجدي: “إنتو يا ناس الجهاز، قروش السودان كلها عندكم، ما تصلحوا المعتقلات دي شوية وتنضفوها؟”. فقال ليه: “المعتقلات للوسخانين الزيكم، ننضفها ليه؟”. أستاذ وجدي قال ليه: “يمكن تدور الأيام وتجي مكاننا هنا، تلقاها مريحة”. دارت الأيام، وقام صلاح قوش باعتقال هذا العبد الغفار، ووضعه في ذات الزنازين!!!!!
كتار ما عارفين إنو الشهيد صالح، أخو زوجته، الذي سقط في الانتفاضة التي اقتلعت الكيزان، فكان بيحث الناس على مواصلة الخروج حتى إسقاط النظام، وكان بيردد: (دفن النظام أولى من دفن صالح لأنو روحه حلقت).
سنة 2005، معاي مجموعة رفاق، عاوزين نكرمه، فبقينا نجمع في القروش بدون ما يعرف. في يوم، السكرتيرة قالت لي: “هو عارف قصة التكريم دي”، وقال لي: “خليهم يواصلوا جمع القروش”. أنا كنت مسؤول من القروش. يوم جينا فتحنا معاه موضوع التكريم، قال لينا: “جيبوا القروش”، ونادى رفيق، أداها ليه، قال ليه: “تدفعوها رسوم لطلاب دارفور الرفاق المحرومين من الامتحانات”، وقال لينا: “دا أكبر تكريم، شكرًا يا رفاق”. شال ورقه وطلع المحكمة 😅✌️، وظل شهور داخل معتقلات النظام، حتى خرج بعد سقوط النظام.
جغمة أخيرة: وجدي مفكات دا زول قاسي على نفسه وعلى الرفاق، ومن ثم على الآخرين، لمن القصة تكون قانون قانون. وصفه الكيزان المتألمين من الفطام بـ”الممثل”، وهم لو شافوا لقطة من تاريخه النضالي والأخلاقي، كان عرفوا منو المخرج ذاته.
Leave a Reply