#ملف_الهدف_الثقافي
في ركنٍ منسيّ من ذاكرة الوطن، يقف شاعر عظيم بحجم وجدان أمة. نردد كلماته كل يوم، ونعشق أغنياته دون أن نعرف من كتبها، كأنما كتب ليتوارى، وغنى الآخرون ليتجلى هو في الغياب. إنه عبد المنعم عبد الحي، أحد أهم أعمدة الأغنية السودانية، وأحد أكثرهم ظلماً وتجاهلاً.
وُلد عبد المنعم في حي الموردة بأم درمان، المدينة التي تفور بالفن والموسيقى، وبدأ كتابة الشعر وهو لا يزال في المرحلة المتوسطة. شاعر نادر جمع بين الفطرة والمعرفة، وانتمى بقلبه وروحه إلى قبيلة الدينكا، في تجسيد حي لوحدة الثقافة السودانية العابرة للجهات والانتماءات.
لم يكن مجرد شاعر موهوب، بل روح شعرية باذخة. خدم عبد المنعم ضابطاً في الجيش المصري، وتنقل بين العواصم، حتى استقر به الرحيل في القاهرة عام 1975، بعد أن ترك في الوجدان السوداني إرثاً من الأغنيات التي ما زالت تُغنى حتى اليوم.
كتب للأصوات الكبرى، وغنى له عمالقة الطرب، وكل منهم استنطق حرفه بلحن الروح. العميد أحمد المصطفى، حمل صوته الكثير من نصوص عبد المنعم الخالدة، فتأملنا معه في قصيدة “أنا أم درمان تأمل في نجوعي”، وذرفنا الشجن في “فارق لا تلم”، وحن القلب مع “يا ناسينا”، وانسكب العشق في “فتنتني، إن في عينيك آيات الغرام”.
أما سيد خليفة، فقد جعل من كلماته جسراً بين السودان والعالم، حين غنى “المامبو السوداني” و”ابني عشك يا قماري”، وصدح بـ “نانا يا نانا” و”أزيكم كيفنكم”، وأشعل النوستالجيا في “من أنت يا حلم الصبا”، و”أسمر قول”، و”حبيبي يا الساكن البوادي”.
وأطل حمد الريح من غربته بأنين شجي في رائعة “نار البعد والغربة”، تلك الأغنية التي أصبحت أيقونة لكل مغترب. وغنى له أبو داؤود بإحساس مرهف أغنيات “يا حليلهم دوام بطراهم”، و”لوموه اللاهي”، و”أحلام العذارى”، و”يا نديماً عبّ من كأس الصبا”. أما عبيد الطيب، فقد ترك صوته في دروبنا مع “يا ساير يا ماشي والنظرة ماشة وراك… وقف وقف، وسوقني معاك”، و”يا روحي سلام عليك”. وغنى له الحويج واحدة من أكثر الأغنيات شعبية: “مين أحلى من حبيبتي مين؟”
وصاحب الصوت العذب عثمان الشفيع ردد كلماته في “أيامنا يا النسيت أيامنا”، و”انساني وأنا أنساك”، و”أسمر يا سمير”، و”ذاك الصباح أهو لاح يا جميل”. وأبدع الكاشف في “أسمر جميل عاجبني لونه، كحل سواد الليل عيونه”، فيما ترنم عثمان حسين بعبقرية الكلمات في “ناس لالا” و”ليالي المصير قولي لخلنا”.
وغنى له محمد حسنين “يا سهارى تعالوا شوفوا البي”، وإبراهيم عوض في أغنيته البديعة “جمال دنيانا”. وكلها نماذج فقط، فالرجل كتب من الأغنيات ما لا يُعد ولا يُحصى، وجعل من كلماته جسوراً بين الأجيال، ووشماً على ذاكرة السودان.
ومع هذا كله، ظل عبد المنعم عبد الحي في الظل، غائباً عن صفحات الإعلام والتكريم، رغم أن أغنياته هي التي شكلت الذائقة السودانية لعقود. بينما يُحتفى اليوم بالغناء السطحي والمفردات الهابطة، يُهمل من خطّ تاريخ الأغنية الرفيعة.
عبد المنعم لم يكن شاعراً فقط، بل ضميراً فنياً خالصاً. من نسيه فقد نسي جذوره، ومن لم يعرفه لم يعرف جمال الكلمة في ذروتها. الحديث عنه لا يُستوفى في سطور، بل يحتاج إلى مرجع كامل، ومشروع بحث، واحتفاء وطني. وما هذه الكلمات إلا ومضة في عتمة النسيان، وإشارة محبة لمن يستحق أن يُعاد له اسمه حيث يجب أن يكون: في الواجهة، في القلب، في التاريخ.

Leave a Reply