
( قراءة فلسفية وسياسية في تشكّل المفهوم وتاريخ تحوّله)
أ. ماجد الغوث
تُولد المصطلحات، لا من فراغ لغوي، بل من رحم الضرورات التاريخية والمجتمعية. والمصالحة، بوصفها مفهومًا سياسيًا وأخلاقيًا، ليست مجرد إجراء تقني لاحتواء صراع بتهدئة حدته، بل هي مرآة لدرجة الوعي الجماعي بطبيعة الخلاف وبشروط استعادة المعنى السياسي و الوطني المشترك.
1. تفريعات المصطلح: المصالحة بين التبسيط السياسي والتعقيد الوجودي تعدد تعريفات ومضامين المصالحة لا يعكس اختلافًا لغويًا فحسب، بل يكشف عن تعدد الأطر المرجعية والأطراف: سياسية، اقتصادية، ثقافية، وسوسيولوجية. فالمجتمعات لا تدخل المصالحة بنفس الدوافع، بل تنطلق من جراحها الخاصة، ومن محاولتها لتأويل الألم إلى معنى. هنا، تبرز مسؤولية المثقفين والأكاديميين والإعلاميين: ليس لترويج المصالحة كشعار، بل لتفكيك المصطلح، وتوضيح تاريخه وسياقه ومخاطره إن أُفرغ من جوهره.
2. المصالحة السياسية: هندسة التفاوض أم هندسة التواطؤ؟:
المصالحة السياسية
هي، في صورتها الظاهرة، محاولة لتجاوز لحظة الصراع، لاحتوائه، عبر التفاوض والتفاهم. غير أن جوهرها أعمق من ذلك: إنها اختبار حقيقي لإرادة الأطراف، وميزان قواها، في بناء مشروع مشترك يتجاوز الاصطفافات والهويات الجزئية. وكما أشار المحلل السياسي كامل مرعاش، فإن أي مصالحة تبدأ من فوق، من دون الارتكاز إلى قاعدة اجتماعية واسعة، هي مجرد هندسة سياسية، فوقية، مؤقتة، مآلها الانهيار. فالمصالحة الحقيقية لا تُدار من صالونات النخبة، وبهدف المحاصصة البينية، بل تُبنى في الحقول والجامعات والمنازل، وبما يمضى صوب تحقيق التطلعات الشعبية، والتعبير عن مصالح السواد الاعظم جماهيريا، على قاعدة العدالة الانتقالية، وجبر الضرر، والاعتراف، لا على قاعدة المصالح الذاتية والمحاصصة بتقاسم الثروة والسلطة بالمناصب والترضيات.
3. المصالحة الوطنية: من الميثاق إلى المداواة الرمزية:
أما المصالحة الوطنية، فهي أفقٌ أوسع من السياسة.إنها ترميم للوعي، وإعادة وصل بين المواطن والمواطنة، بين التاريخ والجغرافيا، بين الفرد والجماعة. بتمكين القاعدة الشعبية العريضة من خلال المشاركة والتمثيل والرقابة، المصالحة الوطنية اذنا لا تتحقق بنصوص الاتفاقات والوعود فحسب، بل في ضمير المجتمع، حين يعترف بجراحه، ويُقدّم خطابًا جديدًا للمستقبل. إنها فعل ثقافي اجتماعي، بقدر ما هي مشروع سياسي، وهي تبدأ من إعادة تعريف الذات الوطنية بوصفها جماعًا متنوّعًا لا كيانًا أحادي الصوت.
4. النموذج السوداني:
مصر كمُحفّز جيوسياسي للمصالحات الفوقية:
شهدت الساحة السودانية منتصف سبعينات القرن العشرين لحظة محورية في تشكل مفهوم (المصالحة)، وقد جاءت تلك اللحظة في ظلّ تغيّرات إقليمية ودولية فرضت نفسها على الخرطوم ابان دكتاتورية25 مايو.
ففي( 2 يوليو 1976)، فشلت محاولة عسكرية قادتها ما كانت تعرف بالجبهة الوطنية (بأحزابها الرئيسية: حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، وجماعة الإخوان المسلمين بزعامة د. حسن الترابي،والاتكادي الديمقراطي بزعامة الشريف حسين الهندي) في إسقاط نظام الرئيس جعفر نميري. وكانت هذه المحاولة تكرارًا لفشلٍ سابق في 1975. هذا التكرار أفضى إلى مراجعات عميقة داخل صفوف الجبهة، دفعت بعض مكوناتها إلى الذهاب نحو ما عُرف بـ”المصالحة الوطنية” مع النظام، والتي لعب فيها الإمبراطور الاثيوبي السلوسي دورا محوريا حسب التوجهات الامريكية، بينما رفض الشريف حسين الهندي الانخراط فيها. في ما افضت اليه، وأسس تجمع الشعب السوداني بالتحالف مع حزب البعث العربي الاشتراكي، و حزب سانو بزعامه صمويل ارو، وشخصيات مستقلة وحراك جماهيري. وتبلور التنظيم الوطني لضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة كزراع عسكري للتجمع.الذي تمكن لاحقا من تفجير انتفاضة مارس ابريل 1983 التي اطاحت بنظام مايو عبر الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي نجم عنه، وبدور الزراع العسكري، انحياز الجيش للشعب.
5. السادات والعبور الرمزي نحو “مصالحة فوقية”:
لم تكن تلك اللحظة السودانية منعزلة عن رياح الإقليم. فزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل في نوفمبر 1977 أحدثت زلزالًا سياسيًا في المنطقة، وانقسامًا في الوعي العربي بين (السلام كضرورة) و(الاستسلام كخيانة). وكان لهذا التحول أثر مباشر على القوى السودانية المعارضة، إذ بدت المصالحة مع نظام نميري وكأنها جزءٌ من مناخ سياسي إقليمي يتجه نحو عقد التسويات، لا الصدامات.
هكذا، وُقّعت المصالحة السودانية – التي وُصفت بالوطنية – لكنها في الحقيقة كانت، كما يشير المقال، ميثاقًا لتقاسم السلطة، لا مشروعًا للعدالة أو التأسيس لدولة جديدة. لقد سُرّبت روح التسوية الساداتية إلى الداخل السوداني، وانحسرت طموحات التغيير الجذري أمام إغراءات العودة إلى مراكز السلطة، ولو مشروطة.
6. المصالحة بين الخلاص الفردي والخيانة الرمزية: ما يجب التنبه له أن المصالحة، حين تكون بلا ذاكرة، وبلا عدالة، تصبح خيانة رمزية. تصبح طقسًا يُغسل فيه الدم دون محاسبة، وتُطمس فيه الحقيقة باسم الوحدة. وهذا ما جرى في العديد من السياقات العربية والافريقية، لا في السودان فقط. فتحوّلت المصالحة إلى “حركة فوقية” بدل أن تكون (شفاءً من الجذور)، وأنتجت مواطنين مشروخين، لا مجتمعات متصالحة.
7. المصالحة في القضايا القومية: من التشظي القطري إلى أفق الأمة:
لا تقتصر المصالحة على تسوية الصراعات داخل الأقطار، بل تمثّل، في بعدها القومي، لحظة تأسيس لفكرة (المصير العربي المشترك) الذي انهكته التجزئة السياسية والخيانات المتبادلة. لقد أصبح العجز العربي عن إنتاج مشروع وحدوي أو حتى تنسيقي حديث ، انعكاسًا مباشرًا لفشل المصالحات الفوقية بين النخب، بين الدول، بين التيارات. وفي هذا السياق، فإن المصالحة ليست “ترفًا عاطفيًا”، بل ضرورة استراتيجية لوقف الانهيار.
ففي ظل الاحتلالات المتعددة لفلسطين والعراق وسوريا واليمن، وفي ظل الارتباك في الموقف من التطبيع، والتفكك أمام الكوارث الإنسانية في السودان ولبنان، تظهر الحاجة إلى (مصالحة قومية)، تُعيد تعريف العدو، وتعيد بناء جسور الثقة بين الشعوب لا بين الأنظمة فقط. إن المصالحة على مستوى الأمة يجب أن تنبع من الاعتراف بأن الخلافات بين القوى العربية ليست قدرًا، بل صنيعة استعمارية، وأن تجاوزها ليس ممكنًا عبر قمم شكلية، بل عبر إعادة تفعيل مفهوم (العروبة الفاعلة)، لا كأيديولوجيا مغلقة، بل كأفق تحرري يتجاوز التخوين والمحاور.
المصالحة القومية اليوم، إن وُجدت إرادتها، يمكن أن تكون نواة لمشروع عربي جديد: يُصالح الحرية مع الهوية، والدين مع السياسة، والتنوع مع الوحدة، والإنسان مع الأرض. وما لم يُفتح هذا الباب، ستظل الأمة محكومة بـ(انقسام الرماد)، تحترق دون أن تشتعل.
خاتمة: هل المصالحة فعل شجاعة أم مراوغة؟
المصالحة، في أصلها، ليست إعلان هدنة، بل إعلان بداية جديدة. هي دعوة لتجديد العقد الاجتماعي، لا لإعادة تدوير النخب. وحين تُغفل جوهر العدالة، تصبح المصالحة مجرد (تسوية نفسية للمهزوم)، لا مشروعًا تحرريًا. إنّ من يفتح باب المصالحة الحقيقية، هو من يملك الجرأة على الاعتراف، لا من يملك الكاميرات. ومن يكتب ميثاقها، هو من عاش جرحها، لا من نجا منه. فهل نحن أمام فرصة لبناء (مصالحة واعية) تبدأ من المساءلة و الانصاف والعدالة و جبر الضرر والتعايش السلمي، وتحرير الذاكرة بتحقيق المساواة والسلام المستدام، وهزيمة خطاب الهيمنة والكراهية؟ أم أن المصالحات القادمة، تسويات فوقية، كما السابقة، ستُكتب بالحبر السياسي، لا بدموع الضحايا وتطلعاتهم؟
Leave a Reply