التحريض باسم التهميش- (حين تُختزل قضايا العدالة في جغرافيا)

طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

في لحظة التباس تاريخي يعيشها السودان، تتوارى مفاهيم العدالة خلف لافتات جهوية، وتُصاغ قضايا الديمقراطية و المساواة بصيغة (نحن) و(هم)، لا باعتبار المواطنة الجامعة، بل كصراع بين جغرافيا تُصنّف إما بوصفها (مركزًا) أو (هامشًا). وهكذا، يتم ترحيل المظالم من حقل السياسات إلى خرائط الطين والرمل، ومن تحليل البُنى وجذور الأسباب إلى التحريض بالانتماء، لتتحول مقولة (التهميش) من خطاب إنصاف إلى أداة تعبئة، ومن نقد بنيوي إلى آلية فرز عدائي تفتيتى.

هذه المقالة ليست إنكارًا لوجود التهميش، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، بل هي تفكيك لطريقة توظيفه؛ كيف يتحوّل، عبر الخطاب، إلى أسلوب في إنتاج الصراع  لا في حله، وكيف تتحوّل مظالم التاريخ إلى سلاح في يد نُخب جديدة لا تملك مشروعًا وطنيًا، ديمقراطيا وحدويا تنمويا، بل (مشاريع مظلومية) جزئية، لمشاركتها من تنتقدهم المناصب والامتيازات بالمحاصصة، عوضا عن توسيع المشاركة السياسية من القاعدة وراسيا، وتحقيق التنمية المتوازنة، جغرافيا واجتماعيا.

التهميش في جوهره ليس مرادفًا للجغرافيا، بل نتيجة تطور غير متوازن و توزيع غير عادل للموارد، وهيمنة قوي سياسية واجتماعية علي مقاليد السلطة، منذ نيل الاستقلال، عجزت عن اعطاء الاستقلال السياسى مضامينه الوحدوية التنموية وربط الديمقراطية، بالانجاز لصالح السوداد الاعظم من الشعب وقواه المنتجة، وبما يعزز السلام، ويديم الديمقراطية. إنتاج وسيطرة تميّز ومحاباه على أساس القرب والبعد من بنية السلطة وتوجهاتها والثروة .

التهميش هو بنية لا خريطة، بنية تتحكم بها السياسات التي ركزت التنمية في العاصمة وأحزمة السلطة، التي خلفتها السياسات البريطانية، وأقصت الأقاليم من نصيبها في الخدمات والتعليم والصحة والمشاركة السياسية والثقافية.

لكن ما جرى هو اختزالٌ مخل، بدل أن يُخاض الصراع لتغيير السياسات ومعالجة الاسباب، خيض الصراع حول المكان. وبدل أن يُطرح السؤال (من يستفيد من الظلم؟)، طُرح السؤال (من أين أنت؟).

في ظل هذا الاختزال، لم تعد (العدالة) قيمة وطنية جامعة، بل تحوّلت إلى (سلاح خطابي)، وأصبحت الهوية وسيلة للضغط السياسي. ومع هذا التحوّل، غدت القبيلة والمكون والانتماء الجهوي أدوات تمويل للمشاريع السياسية المسطحة، العاجزة هي الاخري ، وصار بعض السياسيون يسوّقون أنفسهم كـ (أبناء الهامش) لا كمواطنين بمشروع وطني عام. عندها تحوّلت المظلومية إلى هوية ووسيلة تسلق سريع، والهوية إلى سلاح تشطيرى.

بهذا، اُختزل الإنسان إلى هويته، واختُزل الوعي إلى جغرافيا، وغاب السؤال الجوهري، هل العدالة مشروع تحرّر نهضوي  للإنسان والمجتمع  أم وسيلة لتفكيك الدولة؟

لقد تحوّل خطاب التهميش من خطاب نضالي يطالب بالإنصاف والمساواة والعدالة في اطار تلازم الوحدة. الديمقراطية، إلى خطاب تقسيمي، فارغ المحتوى الاقتصادي والاجتماعي، يعيد إنتاج النظام السياسي الذي يدّعي محاربته بل والمشاركة الفوقية فيه. جري ذلك مع دكتاتوريتي مايو 1969 والانقاذ.بالتفاهمات الثنائية والجماعية والاتفاقيات

و من المفارقات العميقة أن بعض الذين جاؤوا من الهوامش إلى مواقع السلطة  بعد انتفاضة ديسمبر الثورية أو عبر ما عرف باتفاقيات السلام، أعادوا إنتاج ذات النمط المركزي في السيطرة والإقصاء وعزل السلطة عن تطلعات الجماهير. فالعدالة لم تكن غايتهم، بل تم تحويل المظلومية إلى رصيد سياسي، فصارت (شرعية المعاناة) تُوظف لحصد المكاسب والنفوذ أو تقنين احتكار جديد للسلطة، لم ينعكس علي حياة المظلومين.

إن (العدالة الانتقامية) — أي العدالة التي يُراد بها قلب المواقع بدل تغيير القواعد — لا تُنهي الظلم، بل تعيد تدويره بأسماء جديدة. وهنا نكتشف أن التهميش ليس في المركز ولا في الهامش، بل في الذهنية التي ترى السلطة غنيمة لا مسؤولية.

ما يُغفل عنه كثيرًا هو تهميش الداخل؛ أي الفقراء والمهمشين داخل (المركز) نفسه، أولئك الذين لم تلتفت إليهم لا الدولة ولا الفصائل ولا المتحدثين باسم السودان الجديد. كما يُغفل عن نخب (الهامش) التي تعايشت مع الظلم حينما كانت مصالحها مضمونة. فهناك طبقة من المستفيدين تتنقل بين الخرائط والهويات، ترفع شعارات (نحن أبناء الهامش)، ولكنها تعيش في المركز، وتستثمر خطابها على حساب البسطاء الذين حملوا السلاح أو ماتوا في الحروب او هجروا من الديار.

الجغرافيا ليست قدرًا، بل مسرحًا للصراع الإنساني؛ وليست الهوية مكان الميلاد، بل مكان الموقف. ما يغيب عن خطاب التهميش الجغرافي هو الفهم العميق للعدالة كمفهوم مدني وشامل لا يرتبط بمكان، بل بمعايير، وبقيم، وبمشروع جماعي يؤمن بأن المواطنة هي الأصل، وهي اساس المساواة في الحقوق والواجبات، وأن الانتماء للوطن لا يتجزأ ولا يُختزل في الجهة أو القبيلة أو الجنس او اي اعتبار لما دون الوطنية.

العدالة لا تعني أن تنتصر فئة على فئة، بل أن ينتصر الإنسان على نظام الهيمنة؛ أن تتحوّل الدولة من آلة تسلط إلى أفق جامع، يحقق المساواة في الفرص لا في (الدمج القسري). السودان لا يحتاج فقط إلى (إنهاء التهميش)، بل إلى تجاوز المفهوم نفسه نحو وعي وطني جديد يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. يتطلب ذلك:

1. إعادة الاعتبار للفعل السياسي كأداة للتحرّر لا للثأر.

2. بناء اقتصاد إنتاجي يُنهي التبعية ولا يعيد إنتاج المركزية (في مناطق جغرافية بعينها).

3. وضع سياسات تنمية متوازنة على أساس الحاجة والعدالة، لا الهوية أو الصوت السياسي.

4. وإحياء خطاب ثقافي جامع يتجاوز الاستقطاب القبلي والجهوي.

5.والتوافق علي ثوابت وطنية، لتناوب السلطة سلميا، واستدامة الديمقراطية بالتنمية المتوازنة، والحلول السلمية لمعالجة قضايا التطور الوطني.

خاتمة: لقد تم تشويه مفهوم التهميش حين فُصل عن بنيته الطبقية والسياسية والاجتماعية، وأُلصق بجغرافيا تُحوّل الناس إلى خرائط والوان، والمطالب إلى جبهات. المطلوب اليوم هو الخروج من هذا الخطاب المُسعّر نحو أفق تحرّري يؤمن أن كل ظلمٍ هو ظلم، سواء وقع في دارفور أو بحري، أو سواكن، أو حلفا، او بابنوسة او الدلنج، وأن العدالة لا تُمنح لأنها مطلب جغرافي، بل تُبنى لأنها استحقاق وطني إنساني.

فحين تُختزل العدالة في الموقع، تتحوّل الدولة إلى ساحة صراع لا وطن، ويتحوّل الانتماء إلى نقمة لا نعمة. أما حين تُستعاد بوصفها مشروعًا إنسانيًا جامعًا، فإن السودان يمكنه أخيرًا أن يبدأ بالتحرّك من الجغرافيا، نحو التاريخ. وعلى هذا الأساس لابد من الوقف الفوري للحرب اللعينة، والحفاظ علبي السودان موحدا، وطنا للسودانيين كافة، عبر بناء الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير.

إلى موعد قادم ،،،،،،

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.