
سوريا … تحدي الاحتلال والبناء الوطني
ان سورية ليست القطر الاكبر من حيث المساحة او عدد السكان من بين الاقطار العربية التي تشكل بمجموعها المسطح الجغرافي للوطن العربي المترامي الاطراف من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي. لكن سورية التي تقع في “منزلة بين المنزلتين ” ، ان لجهة المساحة او التعداد السكاني ، تكاد تكون الاكثر تأثيراً في مجريات الصراع على الامة العربية وفيها.
فمن يمسك ناصية القرار في الدولة السورية الحديثة ، يحوز على قوة تأثير مضافة على لبنان وفلسطين والاردن وبدرجة اقل على العراق نظراً لمحورية الموقع تجاه مايحيط به. ولهذا فإن سورية التي شكلت مع مصر والعراق اضلعاً للهرم العربي هي واحدة من ركائز الامن القومي ،وهذا الامن يتعرض للاختلال كلما حصل تصدع لواحد من اضلعه. واكثر من ذلك ، فإن مصر ان كانت “مصعد” العرب والعراق “جمجمتهم” فإن سورية هي “دينامو” الامة .
ان سورية ، ومنذ ارتسمت حدود كيانها الجغرافي ، كانت تواجه عدة تحديات ؛ اولها تحدي البناء الداخلي للدولة الوطنية الديموقراطية ، وثانياً تحدي متطلبات الدور القومي في اعادة بعث الامة واستنهاضها والدفع بها باتجاه تحقيق الوحدة القومية ، وثالثاً الاحتلال الصهيوني لفلسطين وتمدداته وتوسعه على حساب دول الجوار الجفرافي.
هذه التحديات الثلاث، لم يتم الصدي لها ومعالجتها بالطريقة التي تقوي من موقع الدولة بمواصفاتها الوطنية في ظل ادارة النظام السابق للحكم ، بل على العكس من ذلك صبت كل السلوكيات والمعالجات في الاتجاه المعاكس لبناء الدولة الوطنية الديموقراطية التي ُغيبّت وتراجعت وظائفها الاساسية لحساب الدولة الامنية التي صادرت الحريات العامة وديموقراطية الحياة السياسية. والامر لم يكن احسن حالاً في العلاقات القومية ، اذ ان سورية التي كانت دائماً اما طالبة او مطلوبة لأي عمل وحدودي ، ارتهنت في ظل النظام السابق لمشروع يحمل في طياته كل الحقد الشعوبي الدفين ضد العروبة وامعن تخريباً ونهجاً متعمداً لاحداث تغيير ديموغرافي في البنية المجتمعية العربية وخاصة في سورية والعراق. واما التحدي الثالث، فإن سورية التي كان شارعها يؤجج الشارع القومي في انتصاره لفلسطين وقضيتها واحتضانها لباكورة انطلاقة الكفاح الشعبي المسلح ، ضبط النظام السابق ايقاع مواقفها تجاه قضية فلسطين بضوابط اتفاقية فك الارتباط التي فرضت على النظام السوري ضبطاً للحدود والتزاماً بمنع اختراقها بعمليات فدائية وحيثما ارتسمت حدود الخطوط الجديدة لانتشار الجيش السوري.
ان هذه التحديات ، لم تكن نتائجها منعزلة عن بعضها البعض ، بل كانت مترابطة في ماتفرزه من نتائج وما تشهده من تغييرات او تبدلات في معطياتها. وقد وصل الامر بالواقع السوري الى الحضيض لان كل ماكان يتفاعل في نطاق التحديات الثلاث ، لم تكن معطياته ايجابية لمصلحة القضية الوطنية السورية ولا في مصلحة القضية القومية ومركزيتها القضية الفلسطينية ولا في مصلحة تعزيز وتقوية المموقع السوري في مواجهة المشروع الصهيوني. أما وان التغيير قد حصل في سورية ،فإن هذا التغيير طال عنوانان من عناوين التحديات الثلاث وبقي الثالث على ثباته . فتحدي البناء الداخلي للدولة واستعادة وظيفتها الاساسية الحمائية والرعائية بات اكثر صعوبة بعد دخول طارئ الفراغ السلطوي بشقيه السياسي والامني على مجرى الاحداث. وتحدي الارتهان لمشروع اقليمي عبث طويلاً بالامن الوطني والمجتمعي ، استبدل بارتهان لمشروع اقليمي اخر ، وكلا المشروعين المغادر والقادم يطلقان ظاهرياً شعار الدعم للقضية الفلسطينة لكنهما يستبطنان بُعْد الاستثمار السياسي فيها كل من خلفية معينة . اما التحدي الذي بقي ثابتاً ، فهو تحدي المشروع الصهيوني الذي وإن كان يستوطن فلسطين كمقدمة لتوسيع رقعة الاحتلال والاستيطان ، الا انه يعتبر امساكه بالورقة السورية هي الجائزة الكبرى التي يمكن ان يحصل عليها سياق الصراع المفتوح معه بعدما مكنته القوى الاستعمارية الحاضنة لمشروعه من نيل “جائزة “اغتصاب لفسطين.
لقد استطاع العدو الصهيوني ان يوظف نتائج الدور السوري على مدى عقود من الزمن في الحد الاقصى الممكن من التوظيف الايجابي لمصلحته ، من دوره في لبنان , الى دوره في تشظية ساحة العمل الوطني الفلسطين ،ومعهما الاصطفاف مع التحالف الدولي الذي قادته اميركا ضد العراق ،واخيراً توفير قاعدة متقدمة للمشروع الايراني في قلب الوطن العربي وهو الذي ساهم في تحقيق مالم يستطع العدو الصهيوني تحقيقه من تفتيت وتطييف للحياة السياسية والمجتمعية في اكثر من قطر عربي وبما جعل كل الساحات العربية المحيطة بفلسطين ، ساحات رخوة لاتتوفر لها ارضية صلبة للوقوف عليها في مواجهة المشروع الصهيوني. والنظر بايجابية لسقوط النظام السابق المتلازم مع انكفاء المشروع الايراني ، لم يكن كافياً لوضع سورية على سكة المسار الوطني للبناء السياسي الجديد فيها ،نظراً لكون الجهة التي مُكِنَت الامساك السياسي بناصية السلطة ، ارتكبت خطأين فادحين ، الاول ، اقدامها على تسريح القوات العسكرية النظامية بالترافق مع دفع تشكيلات عسكرية يغلب على طبيعتها وتركيبها الطابع المليشياوي الى الواجهة الامنية والعسكرية . والثاني ، استبعادها لطيف سياسي واسع من المشاركة في اعادة البناء السياسي واعادة تكوين السلطة في المرحلة الانتقالية . وقد برزت الاثار السلبية لهذين الخطأين في الارباك الذي واجهت فيه السلطة الجديدة الاحداث الدموية التي شهدها الساحل في اذار الماضي وتلك التي شهدها الجنوب السوري وخاصة السويداء ومحيطها خلال الايام الاخيرة والتي ماتزال في وضع النار تحت الرماد.
وكما لم تكن احداث الساحل صاعقة في سماء صافية ، فإن تلك التي شهدها الجنوب السوري هي كذلك مع اختلاف القوى المحركة لهما. ففي احداث الساحل ، كانت الخلايا النائمة وما درج الاعلام على نعته بالفلول هم من دفعوا بالاحداث الى مستوى الانفجار وادى الى ما ادى من وقوع ضحايا واعمال اجرامية ومشينة وتدمير ممتلكات وانتهاك حرمات ،فإن احداث السويداء وعلى تعدد “اللاعبين الصغار” بها ، الا ان اللاعب الاساسي بها هو العدو الصهيوني ، وهدفه ليس مازعمه “مكرمة “منه لحماية مكون اجتماعي بعينه مستنداً الى اختراق حققه لدى ضعاف النفوس للذين يستقوون به ، بل الضغط بكل الامكانات المتاحة له للعبث بالجغرافيا وأخذ سورية الى الدوران في المدار الاسرائيلي بدءاً برسم حدود امنية جديدة بالنار ،وانتهاءً بجعلها عاجزة عن مقاومة تلبية الاستجابة للاملاءات الصهيونية المدعومة اميركياً ، وصولاً لفرض اتفاقيات تطبيع سياسي واقتصادي يحاكي مسار اتفاقيات التسوية مع انظمة عربية ، والا الانخراط في آليات اتفاقات ابراهم ، وكلا النموذجين ينطويان على مخاطر قاتلة ليس على سورية كقطر بعينه وانما على المحيط الجغرافي الاقرب واوله لبنان ومنه الى المدى القومي الابعد. واذ يشتد الضغط المعادي على سورية فلان طبيعة شعبها وتجذر انتمائه العروبي يجعله يمتلك من الدينامية الشعبية والسياسية ما يجعله عصياً على التطويع والتطبيع . فهذا الشعب وكما يصفه احد مؤسسي البعث الاستاذ صلاح البيطار في مقالة كتبها عام ١٩٨٠ تحت عنوان “عفوك شعب سورية العظيم” وهي التي دفعت حافظ الاسد للاسراع باتخاذ قرار تصفيته في باريس. يقول في مقالة الاعتذار هذه ” شعب سورية العربية المعطاء ، هوشعب القلق الدائم على امته ، وهو ما تقاعس يوماً على دعم ثورة شعب في الوطن العربي ، الا كان اول الملبين بالنفس والنفيس وبالمشاركة الفعلية والوجدانية وهو دائماً في فلسطين وبعفوية وبدون منّة ، كطبيعة فيه تاريخية وعقيدة وحدوية . “
من هنا فإن سورية التي يتميز شعبها بميزة القلق الدائم على امته وهي الدولة المحورية في الوطن العربي ، لاتدار بالعقلية الميلشياوية ، ولا بعقلية الثأر وردود الفعل التي تستثير الغرائز المذهبية والمناطقية ، وانما تدار بعقلية مؤسسات الدولة العميقة التي تستحضر في سلوكية ادارتها كل ماينطوي على ايجابية بناء الدولة الوطنية الديموقراطية وعلى توفير مقتضيات الامن الوطني في مواجهة تحدي الاحتلال ، وامن المواطن في مواجهة تحديات الانتظام الداخلي تحت سقف القانون وتطبيق احكام العدالة الانتقالية على منتهكي حقوق الانسان في اي عهد حصلت. وهذا يتطلب :
اولاً ، اعلان موقف وطني واضح في رفض كل مايسعى العدو لفرضه بالنار وبوسائل الضغط الاخرى ، وثانياً ، الاسراع بانجاز خطوات تحصين الجبهة الداخلية عبر السير على ثلاثة مسارات :اولها ،اعادة الاعتبار لدور الجيش الوطني واعادة تأهيله على قاعدة عقيدته القتالية الوطنية والقومية ،وثانيها ، المبادرة فوراً لتوسيع دائرة المشاركة السياسية في اعادة البناء الوطني وتكوين السلطة الانتقالية والانفتاح على مروحة واسعة من القوى الوطنية والفعاليات السياسية الحريصة على حماية المقومات الوطنية ولتصليب الموقف في مواجهة ما تتعرض له سورية حالياً من ضغوط لاخذها الى مدار سياسي غير مدارها القومي الطبيعي،وثالثهما ، اطلاق خطاب التطمين الوطني لكل مكونات الشعب والذي يفترض ان يكون مقرونا بالتشديد على تطبيق احكام العدالة الانتقالية وضبط المساءلة والمحاسبة تحت سقف القانون كما انصاف الضحايا والتعويض عليهم.
لقد كنا من اشد المعارضين للنظام السابق ، وتعرضنا لكل اشكال الاضهاد السياسي والملاحقات الامنية وصولاً الى التصفيات الجسدية والاعتقال والتشرد ، لكن مع كل ذلك كنا نميز بين النظام بكل موبقات ممارساته ومواقفه ، وبين الدولة السورية التي كنا نحرص بأن تبقى قوية بمرتكزاتها الاساسية المتجسدة بوحدة الارض والشعب والمؤسسات . واليوم ، وان كنا لانشاطر ادارة الحكم خياراتها ومواقفها على مستوى ادارة الداخل والعلاقة مع الخارج ، الا اننا نبدي حرصاً شديداً على ان تبقى سورية الدولة العميقة ،دولة قوية ، دولة واحدة موحدة ارضاً وشعباً ومؤسسات ،وان تبقى ساحتها الداخلية محصنة من الاختراقات المعادية وخاصة الاختراق الصهيوني.فبقوة سورية ،تقوى الامة ، وبضعفها تضعف ، واكثر الساحات التي ُيظَهّر فيها تأثير الموقع السوري بضعفه او بقوته وتحديداً في مواجه المشروع الصهيوني ، هما ساحتا لبنان وفلسطين. ولذلك فإن من مصلحة لبنان كما فلسطين ان يبقى الموقع السوري قوياً ومظللاً بعناوين بعناوين المسألتين الوطنية والقومية في بعديهما التحريري والتقدمي.وهذه بقدر ماهي مهمة وطنية سورية ، هي مهمة قومية عربية .
Leave a Reply