
حمدي صلاح الدين
بدون ألوانَ
” عرقي الجنوب، بنقو الصعيد وبيرة كمبالا”
حتى لا يشطح تفكيرك بعيدًا، لست من متعاطي الخمور لا بلدية ولاأفرنجية ولست من متعاطي المخدرات بأنواعها وأشكالها وألوانها المختلفة والسبب الأساسي في ذلك عملي في التدريس بمختلف مراحله وعملي في الصحافة فالمهنتان رساليتان ويفترض بك أن تكون قدوة لمن حولك.
في التدريس الانضباط أعلى بدرجة كبيرة ويصل إلى درجة طريقة حلاقة الشعر ونوع الملابس وألوان الملابس حيث يجب أن ترتدي ملابس في مستوى فئات الوسط الاجتماعية ويجب أن تبتعد عن الألوان البراقة وأن تبتعد عن الأصفر والأحمر تحديدً، ا ذلك حتى لا يترك الطالب الدرس ويركز في قميصك الغالي أو المرصع أو البراق أو العاكس للألوان لذلك الضوابط في التدريس أعلى حتى طريقة سيرك في الشارع تكون بحساب وهذا ما يجعلك بعيدًا عن أماكن “اللبش” وأماكن “القيل والقال” حتى تحتفظ بقدويتك للطلاب.
وأماكن ومواضع اللبش هذه تبدأ من “الرقيص في الحفلات” و لا تنتهي بمقارعة الخمور والمخدرات، فأنت تعيش في عقد اجتماعي يتمثل في نظام صارم وحاد وقاسي جدًا.
بعض أصدقائي يسألونني متضايقين ” انت طوالي لابس التي الشيرت الأصفر ده ؟ عذبتو عذاب التي شيرت ده” ، أرد مبتسمًا “عاجبني يا جماعة انتو مالكم ” والحقيقة، التي لا أقولها لهم، أنني محروم من لبس الألوان البراقة ساعات الدوام النهاري تأدبًا أمام طلابي فاستغل الطلعات المسائية في ارتداء هذه الألوان لذلك أقتني التي شيرتات الحمراء والصفراء بكثافة ويخيل لأصدقائي أنه تي شيرت واحد ، قد يكونوا ست أو سبع تي شيرتات بذات اللون.
اشتريت مرة من صاحب محل في جدة ست تي شيرتات بشعار البرازيل قال لي “ح تلعبوا كرة طائرة بأقمصة كرة القدم بتاعة البرازيل ؟ تعال خد أقمصة الكرة الطائرة متوفرة عندنا ” هو اعتقد أنني اشتري طقم تي شيرتات لفريق كرة قدم، ضحكت في نفسي وشكرته مضيفًا “انت مش فاهم السبب يا عم المصري”.
الابتعاد عن أماكن اللبش محمدة كبيرة.
لكن، بالتأكيد تمر عليك تجارب وسط مجتمع ممتد و متداخل ومتشابك مثل المجتمع السوداني منها ما تفرضه عليك الضرورة ومنها ما تقع فيه بحسن نية ومنها ما تحشرك فيه الظروف حشرًا.
في كمبالا ، وقبل مغادرتي بيومين أصر الشباب على إقامة “حفلة بيرة” احتفاء بوداعي وبعضهم اقترح أن نذهب إلى مول يضع “البيرة المثلجة داخل جمجمة” ويقدمها للزبون، اعتذرت للشباب وقلت “شاي لبن عند يورس الإثيوبية يكفي، شكرًا على مشاعركم الجميلة “، قدامي سفر يا شباب، بيرة الجماجم دي ما بتنفع كأول تجربة قبل ساعات من السفر مضيفًا في محاولة لجبر الخواطر “لو كلمتوني من بدري كان ممكن”.
حفل البيرة هذا ذكرني بعدة مواقف فذات مرة كنت أعمل مستشارًا لإحدى المؤسسات وكنت أحشر حشرًا في كل قضايا المنطقة ك”عضو لجنة” وفي مرة حدث اشتباك بين أخوة جنوبيين وأخوة شماليين وفشلنا في فض الاشتباكو واتفق الجميع بمعاونة وإرشاد أخ عزيز من جنوب السودان أن نذهب إلى “الرث ” لمعالجة الوضع المحتقن ووضعوني في اللجنة المعنية كالعادة. و”الرث” هو لقب يطلق على زعيم القبيلة عند بعض قبائل أخوتنا في جنوب السودان.
ثلاث سيارات قطعت سبعين كيلومترًا لمقابلة “الرث”.
عندما دلفنا إلى مضيفة الرث وجدنا شخصية ضخمة، رجل محترم كبير في السن تبدو عليه دلالات الحكمة
والوقار، محاط بعدد من الأشخاص، جلسنا ومعنا صديقنا العزيز الجنوب، نحن نحكي وهو يترجم وجيء بالضيافة “قرعة عليها مشروب ” بعدد الحضور ، وضعناها أمامنا والرث ينظر إلينا شذرًا و هو يستمع إلى القصة من صديقنا ، يبدو أنه غير راض عن سلوك ما، قلت لجاري في المجلس ” بعض القبائل تعتبر وضع الضيافة على الطاولة إهانة لذلك ينظر إلينا هذا الرجل بهذه الطريقة ” وأكملت “علينا أن نشرب هذا الشيء بسرعة حتى لا يرفض التدخل وحل المشكلة ”
همس محدثي “المشروب ده شنو ؟ نحن ح نشرب حاجة ما عارفنها ؟
” رددت “لا أعرف، أول مرة يمر علىّ ” ثم بادرت بالشرب ، القرعة كاملة دفعة واحدة ، غصة وقفت في حلقي ثم تلقيت بعدها نظرة ارتياح من الرث.
جاري جرب جرعة واحدة ، رمقه الرث بنظرة جعلته يتجرع باقي المشروب دفعه واحدة هامسًا “مر كالعلقم ” قلت له كما قال جعفر السقيد ” في المر ما عليكا ملامة .. أشرب، ما تفضل جرعة “، وبعد أداء فروض الولاء والطاعة تطوع رث الشلك بحل المشكلة في دقائق معدودات.
وذات مرة ذهبنا إلى عزاء في الصعيد ، وصلنا 2:30 ظهرًا وسط أجواء خرافية مغرية لفعل المنكرات حمانا الله وإياكم ، بعد طقوس العزاء
وتناول الغداء بدأت الأمطار في الهطول بغزارة وبدون مقدمات.
ونحن في الصيوان، دخل شاب عريض المنكبين طويل القامة ، وقف عند منتصف الصيوان ، صفق يديه ثم قال : المطر ده ما ح يقيف يا أخوانا، ناس العرقي يمشوا البيت ده “مشيرًا إلى بيت ناحية اليمين ” وناس البنقو يمشوا البيت ده “مشيرًا إلى بيت ناحية اليسار ” وبدأ الناس في التدافع نحو المقصدين مع تزايد حبات المطر.
اقتربت من الشاب، قلت “أنا لا بشرب عرقي لا بنقو، أمشي وين “
قال بجدية : نصيحة أخوية، ناس العرقي ديل بعد ساعة ساعتين ح يدوروا ضرب في بعض، أمشي مع ناس البنقو ، آخرهم يطلعوا العود يغنوا لمصطفي سيد أحمد ويبكوا ، بس ركز الناس دي ما بتحب الإزعاج، عارف المعلومة دي ؟
قلت: لا
قال : لازم تتثقف في المجالات دي ، ناس البنقو ديل لمن تقعد معاهم ما تتكلم كتير زي كلامك معاي ده، لو اتكلمت اتكلم بي صوت منخفض وكلمة كلمة، ما تفتح أو تقفل الباب بي صوت عالي، ما ترمي عملات معدنية على الطاولة ، الناس دي كلها السلوك حقتها مرخية يعني لو رميت شلن على الطاولة بيحسوها كأنها صاقعة وقعت في رأس البيت.
قلت: مافي باص راجع الخرطوم ؟
ضحك وقال : باص مين يا معلم ، المطر ده ح يستمر من 16 إلى 20 ساعة عشان كده الناس دي كلها بتجخنن تدق العرقي والبنقو.
قلت: طيب، شكرًا على التثقيف الصحي
مشيت لناس البنقو ، صالون كبير ، الناس جلوس في شكل حدوة حصان ، سلمت عليهم ، بدوا غير منزعجين لحضوري ، واحد قاعد بعيد “أعتقد إنه شيخ القعدة ” واعتقادي بسبب أنه من يصدر التوجيهات للبقية ، توجيهات مثل “جيبوا الموية ، أدوا الضيف أول، جيبوا المعلوم ”
أحضروا ثلاث صواني متوسطة ممتلئة بالملفوف وبدأت السجارة تدور وعندما تصلني أمررها لجاري، لاحقًا عرفت أن أصحاب المزاج يتضايقوا من وجود شخص غير مزاجي بينهم .
بعد خمس أو ست دورات انعقاد أكملوا معها صينتين وتبقت صينية، أمروا بالعود و بدأوا بالغناء الفرايحي وفي كل مرة يجي فوج يأخدني أبشر للمغني حتى جاءت أغنية عثمان حسين “كل طائر مرتحل .. عبر البحر .. حملته أشواقي الدفيقة “ وبدأت الدموع تنهمر بعدها بكاء ونحيب و آهات بصوت مسموع تساءلت في نفسي هل كل هذا الجمع يحب فتاة واحدة هاجرت و َعبرت البحر ؟ ولا المشوكش واحد والباقين مساندين ؟
والحكايا كثيرة تستدعى مع المواقف، لكنها تبقى ذكريات قد تصنف كفعل غير مقصود وسط رحابة وامتداد وعفوية المجتمع السوداني.
Leave a Reply