
كمال حافظ
#ملف_الهدف_الثقافي
في إحدى ضواحي أم درمان القديمة، قرب جامع الحلة المطل على الميدان، نُصب صيوان عزاء إبراهيم محجوب وفُتح بيت البكاء. مات إبراهيم فجأة، دون مرض أو إنذار، وهو يفترش بضاعته في ميدان البوستة بسوق أم درمان. في القسم النسائي من البيت الصغير الفقير جلست فاطمة ابنته، بين النائحات، لا ترى أحدًا. شاردة تائهة بين أفكارها، لم تستوعب حتى اللحظة موت والدها المباغت. أما أمها سكينة فتجلدت؛ تلهي نفسها باستقبال المعزين، وتردد: “الحمد لله على ما أراد الله”، بنبرةٍ متماسكة، كجملٍ يلوك صبره.
دخلت نوال، مرّت عوض الكريم، رفعت يديها بالفاتحة، واقتربت من سكينة ثم من ابنتها. ناحت بصوتٍ مصطنع، نواح نفاق كوضح النهار، فقط لتتفادى الملامة. جلست بين النساء، ثم سمعنها تهمس لجارتها: “وينو أخو المرحوم؟ ما شفتو.. يمكن قاعد برا مع الرجال؟” ثم ضحكت بسخرية خفيفة: “يكون سكران ليهو في حتة..” لم ترد عليها سكينة، ولم تجد فيمن حولها من يصغي، فتبعت كلامها باستغفار ثقيل.
نوال، جميلة الخلقة، قبيحة الطبع. لم تحبها نساء الحي ولا جذب جمالها الرجال، فطالت عنوستها. كانت تعيش فقراً مدقعاً لكنها مدللة، كأنها أميرة. أنقذها دكتور عبد الكريم المغترب الذي لمحها ذات زيارة لجيرانه، فأعجب بها وتزوجها سريعًا. أعجابه تلاشى بعد أن ظهرت طباعها، فتحوّلت لديه إلى مستودع جسد فقط. أما هي فلم تهتم به في شخصه، بل بماله ومكانته التي أصبحت لها تباهي بها.
في مكانٍ آخر جلس ميرغني قرب النيل، عيناه محمرتان من السكر والبكاء، خداه مبللان، ووجهه مدفدف، تتناثر قربه زجاجتان فارغتان. لم يحضر الدفن، ولا رأى الجثة. هرب حين سمع الخبر. حملٌ ثقيل سقط على كتفيه؛ زوجة أخيه وابنته، فوق حمله مع الشراب. صرخ بلا صوت: يا رب!
في المساء، وبينما يعود إلى المنزل، مرّ ببوابة الجامع المواجهة للميدان. خرج عبر البوابة صديقه القديم، شيخ أبكر، إمام الجامع. فرّقتهما الأيام، لكن الود لم يمت تمامًا. بعد السلام بسط الشيخ يديه لقراءة الفاتحة، تردد ميرغني قليلاً ثم رفع يديه. قال الشيخ: “أحسن الله عزاكم يا ميرغني.. ليه ما دفنت أخوك ولا حضرت عزاه؟ مشيت لي سجمك مش كدا؟” ردّ ميرغني بصوت متحشرج: “أنا عيان يا شيخ أبكر.” تهدج صوت الشيخ، وتحول العتاب إلى شفقة: “الله يشفيك وينوّر بصيرتك يا أخوي.” احتضنه، ربت على كتفه، ثم مضى. وقف الشيخ يفكر في حال صديقه القديم. عبر الميدان رأى عصابة يونس الغسّال، متكئين على الجدار المجهول خلف المرمى. “الله يكفينا شر الوِليد دا.”
رغم مظهرهم، لم تكن العصابة خطرة. مجموعة من الصبيان السذج، مبهورين بشخصية يونس. وحده من كان له سجل، نشأ في دار الأحداث بعد أن قتل من شتم أباه. خرج كارهاً للحياة والناس، تنقل بين أعمال عدة حتى استقر بمغسلة الحي فألحق عمله باسمه. التف حوله المراهقون وبدأ يجرّهم لأعمال صغيرة لا تضر الآن، لكنها قد تفسدهم لاحقًا. في ذلك اليوم، أخبرهم أنه سيرحل، ربما من المدينة، وربما من البلاد كلها. لم يوضح وجهته، حزِنوا، لكن لم يكن أمامهم خيار.
بعد التفرّق، قال لصديقه التِنَيّ: “أنا سايق فطومة بت عمك إبراهيم دي معاي. ياخ دي اسمح بت!” رد التِنَيّ: “يا زول انت مجنون؟ بتعرفك من وين؟ أبوها دابو ميت!” قال يونس: “أنا أرجل راجل في الحلة دي، ما بتقدر تاباني!” فرد التِنَيّ: “والله تاباك أبية.. ما شايف روحك شين كيف؟” ضحك يونس، ولم يعلّق.
عاد ميرغني إلى المنزل. وجد فاطمة على حالها، كأنها صورة. لكنها عندما رأته قفزت إليه واحتضنته، وانفجرت في بكاءٍ طويل، أول بكاء لها منذ سماع الخبر. احتضنها بقوة، ولم ينبس. بعد أن هدأت، استغفرت، فقبّلها على رأسها ومضى إلى غرفة الرجال.
كان البيت بسيطًا، مقسمًا بين النساء والرجال، بكل جناح غرفة وحمام ومطبخ مشترك. تمدد ميرغني وغرق في كوابيس. حين استيقظ قرر أن يحمل عبء أخيه ويتخلص من عبء الشراب. جلس على سريره، فرأى علبة الطلاء الأسود، التي أحضرها خطأ بدلًا من البيج. نسي إرجاعها مرارًا، وأصبحت جزءًا من الغرفة. تمتم: “يا ربي الزول يقبل يبدلها لي بعد أسبوعين؟!”
خرج ليجد فاطمة تكنس الحوش: “صباح الخير.” ردت: “أريت يكون في خير يا عمو..” تنهد، غسل وجهه، وخرج أخيرًا بحثًا عن عمل، بعد شهرين من البطالة. في الحوش النسائي، جلست سكينة تحوقل، تنظر للسماء دون أمل. جاءت فاطمة، جلست قربها: “قريت ليهو آخر آيتين من سورة التوبة.. وبرضو مات.” طعنت الجملة قلب سكينة، ثم انفجرت فاطمة بالبكاء. قالت وسط دموعها: “ما قلتي لمن الزول يقراهن لي زولو ما بيموت!” ردت الأم: “الحمد لله يا بتي.. الحمد لله..” اتكأت فاطمة على فخذ أمها، فمالت عليها كأنها تغلفها. بكاء صامت لا يسمعه أحد. لوحة كئيبة، باهتة، من رسام مجهول في عصر النهضة.
أما ميرغني، فقد نسي كيف يبحث الإنسان عن عمل. طال به الزمن، ولا خبرة لديه إلا أعمال متفرقة، سرعان ما يتركها أو يُطرَد منها، بسبب إدمانه الشراب. شرابه الذي بدأه بعد مقتل عامر، صديقه في حرب الجنوب. حينها، استقال من الجيش، وكفر بالجهاد والحكومة والدين المُسيس. عاد يحمل جثة صديقه في قلبه، يرى عتابه في كل مكان، ويشرب لينسى. فكّر في الذهاب لسوق أم درمان، فتراجع. لا يدري حقًا إلى أين يتجه…
(يتواصل)
Leave a Reply