
طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد قفزة تقنية في مسار التقدم البشري، بل غدا مرآة لصراعات السلطة، وساحة شبحية تتنازعها الأمم الكبرى، حيث تحوّل (الذهن الخوارزمي) إلى امتداد لآلة الهيمنة، وإلى سلاح ناعم يُدار بالصمت لا بالرصاص. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية تُستهلك، بل صار خطابًا كونياً يعيد تشكيل نظرتنا إلى الواقع، ويعيد هندسة الإنسان ذاته في رغباته، وقراراته، وهويته.
والسؤال المرير الذي يتصاعد وسط هذا الضجيج الخفي:
هل سيظل الإنسان العربي مجرد متلقٍّ في هذا المسرح الرقمي الكوني؟ أم أن في فضاء التبعية مجالاً للسيادة، وفي عتمة الاحتواء مساحة للمقاومة؟
كل نموذج لغوي ذكي، كل خوارزمية توصية، كل برمجية تتخذ قرارًا نيابة عن العقل البشري، هي -في جوهرها- تجسيد لإرادة حضارية تسعى لإعادة إنتاج العالم وفقًا لمفرداتها، لقيمها، لرؤيتها للإنسان. لا غرابة إذن أن تكون البيانات، هذه المادة الأولية للعصر الجديد (الثورة الصناعية الخامسة)، مخزنة ومصنّفة ومحلّلة في مراكز بيانات بعيدة، تخضع لعقول لا تعرف شيئًا عن أوجاعنا أو أحلامنا.
كيف يمكن لمن لا يعرف قصائد المتنبي، أو لحن الحلاج، أو نداء درويش إلى الهوية، أو لهفة التجاني حسين دفع السيد، أو اشتياق حامد حسن حامد للوردة العربية الحمراء، أو القدال، أن يفهم روح السؤال العربي؟
إن النماذج اللغوية الذكية التي (تفكر عنا) قد تُنتج إجابات متقنة الصياغة، لكنها تطحن الأسئلة التي لا تدخل في قاموسها الغربي المهيمن.
فكيف لـ(شات جي بي تي) أن يقرأ جرح السودان في قصيدة (أغنية المطر) التي تنذر بالعطش رغم فيضان النيل؟ وكيف له أن يفهم أن (التمر) في شعر (سالم حميد) ليس مجرّد فاكهة، بل رمز للصمود في مواجهة المجاعات والحروب؟
هذه النماذج تحاكي اللغة، لكنها تعجز عن استيعاب أن الكلمة في التراث العربي ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي وعاء الذاكرة الجماعية وبوصلة المقاومة. فالشعر السوداني لم يكن أبدًا ترفًا أدبيًا، بل كان صوت الإنسان المهمش، وصرخة الفلاحين في وجه الجفاف، ونداء الثوار ضد الاستعمار. فهل يمكن لذكاء اصطناعي صُمم في وادي السيليكون أن يدرك أن (النخلة) في الشعر السوداني هي أيضًا شجرة العائلة، ومخزن القمح، وسقف الفقراء؟ أم أن هذه الطبقات الدلالية ستفلت منه كما أفلتت من كل مستعمر حاول قراءة ترابنا بغير عيوننا؟
لقد تسرب الذكاء الاصطناعي إلى بنى القرار، إلى الأمن، إلى التعليم، إلى الإعلام. لكنه في العالم العربي لا يزال يُستورد على هيئة حلول مغلّفة جاهزة للاستهلاك. تُستخدم الأنظمة الذكية في المراقبة، في الخدمات، في التسويق، لكنها لا تنبع من الداخل، من الروح العربية، بل من خوارزميات طوّرتها شركات أجنبية في سياقات لا تشبهنا. نحن لا ننتج المنصة، بل نستأجرها. لا نبني النموذج، بل نُدرّبه على لغتنا ليتحدث بلسان لا يعكس وعينا. إنها التبعية الرقمية في أبهى تجلياتها.
ومع ذلك، فإن بوادر مقاومة تظهر هنا وهناك، كجمر تحت الرماد. من جامعة محمد بن زايد التي تسعى لتكوين نخب جديدة تتحدث بلغة الخوارزميات، إلى نموذج (جيس) الذي يشكّل محاولة خجولة لبناء سردية لغوية عربية داخل النظام الذكي، إلى الاستخدامات الزراعية التي بدأت تُعيد الاعتبار للمعرفة البيئية في المغرب. غير أن هذه المبادرات تظل محاصرة بواقع شحيح في الكفاءات، فقير في التشريعات، مشوش في الرؤية. فأي مشروع تحرري يمكن أن ينمو في ظل غياب بنية تحتية سيادية تضمن للبيانات العربية موطنًا لا يُنهب؟
ليست القضية في عدد الخوادم، ولا في سرعة المعالجات، بل في امتلاك السؤال الفلسفي قبل التقني: من يتحكم في إنتاج (المعنى) في هذا العصر؟ هل نريد ذكاءً اصطناعيًا يروّج لنا، أم ذكاءً يعكسنا؟ إذا لم يكن الذكاء الاصطناعي أداة لفهم الذات، لتحرير المجتمعات من البنية الطبقية للتكنولوجيا، فلن يكون إلا قفصًا آخر من أقفاص الحداثة الزائفة.
لذلك، لا بد من مشروع عربي يتجاوز الاستهلاك نحو الخلق. مشروع يؤمن أن السيادة الرقمية ليست ترفًا، بل امتداد لحق تقرير المصير. مشروع يعيد موضعة الإنسان العربي داخل الزمن الرقمي، لا كمتلقٍّ، بل كصانع لنموذجه، كحارس لذاكرته، كمهندس للغد.
هذا المشروع يبدأ بتأسيس بنى تحتية مستقلة، بمراكز بيانات ذات سيادة، بنماذج لغوية لا تمارس التنميط، بل تقاومه. تعليم يدرّس الخوارزميات كما يدرّس النحو والمنطق، جامعات لا تدرّب على البرمجة فقط، بل على تأمل آثار البرمجة في الكينونة. وتشريعات لا تنظّم فقط (الذكاء)، بل تضمن ألا يُستخدم في تسليع الإنسان أو إخضاعه.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي هو سؤال وجود. ليس في برمجته فقط، بل في صمته الماورائي: من يقرر ما الذي يجب أن نعرفه؟ ومن يصوغ المستقبل؟ الأمم التي لا تمتلك ذكاءها الاصطناعي، لن يكون لها صوت في المستقبل. ستُحكم عبر شفرات لم تكتبها، وستُشكّل رؤيتها عبر شاشات لا تعرف عنا سوى الظل.
إن لم ننتج سرديتنا، سَنُكتب كهامش في سرديات الآخرين.
وما الذكاء الاصطناعي إلا أداة، فإما أن نجعلها مرآة للكرامة، أو تتحوّل إلى قيد جديد في سجن التاريخ.
Leave a Reply