
هيثم الشفيع
#ملف_الهدف_الثقافي
هل غادرَ الأحبابُ غيرَ تَحرُّمِ
أم هل سَلَوا ذِكراكَ بعدَ تَكتُّمِ؟
يا قلبُ ويحَكَ ما لَقيتَ من الهوى
صبٌّ تُنازِعهُ الليالي المُظلمِ
إني حملتُ الحزنَ دونَ تبرُّمٍ
ومضيتُ في دربِ الوفاءِ بمعصمِ
لو كنتَ تدري ما كتمتُ من الأسى
لعذرتَ دمعي في خُفوتِ تبسُّمِ
لكنّ صبري مثلُ سيفي صارمٌ
ما خابَ في الهيجاءِ يومَ التَّحَمْحُمِ.
الأبيات أعلاه هي ردّ من تطبيق الذكاء الاصطناعي الأشهر (ChatGPT) على طلبي أن يكتب ستة أبيات مجاراةً لبداية معلقة عنترة بن شداد:
هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ
أم هل عرفتِ الدارَ بعد توهُّمِ؟
وقد اخترت هذه المعلقة تحديدًا، لأن كثيرين يرون فيها إقرارًا بأننا نُعيد ونُكرّر المعاني في الشعر، وهي تمثل ذروة البلاغة في التراث العربي الكلاسيكي. وربما بدا استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاولة مجاراة هذا الشعر نوعًا من المغامرة الحداثية أو التجريب اللغوي.
لكن ما لاحظته بوضوح هو الخلل في البيت الأخير:
لكنّ صبري مثلُ سيفي صارمٌ
ما خابَ في الهيجاءِ يومَ التَّحَمْحُمِ.
الكلمة الأخيرة (التحمحُم) غريبة، ضعيفة السبك، وتفتقر للانسجام مع السياقين الفني والدلالي، بل إن تركيب البيت ذاته بدا ركيكًا في الوزن والمعنى.
كما لاحظت أن بعض الأبيات تُركّب كلمات موزونة ومرتبة، لكنها تفتقر إلى المعنى المتماسك، ولا تتصل سياقيًا بما قبلها أو بعدها، مما يجعلها أقرب إلى “توليف لغوي” يخلو من روح الشعر الحقيقي.
فكرة استخدام الذكاء الاصطناعي في الأدب، والشعر تحديدًا، مرعبة بالنسبة لي أكثر من كونها غريبة.
لقد قرأت عددًا من المقالات التي تناولت هذه الظاهرة، ومعظمها أجمع على أن التجربة نجحت من حيث الشكل (الوزن، التراكيب)، لكنها فشلت من حيث الجوهر، لأن “روح الكاتب” تبقى – في رأي الكثيرين – شرطًا أساسيًا في الإبداع الأدبي.
لكن ما فاتهم هو أن هذه “الروح” قد تصبح مستقبلاً قابلة للتقليد أو المحاكاة من قبل نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تقدمًا (خصوصًا أن الأدوات المتاحة حاليًا غالبًا ما تكون مجانية ومحدودة الإمكانات).
بعد هذه المحاولة، طلبت من التطبيق أن يُكمل مقطعًا شعريًا للشاعر الكبير عالم عباس محمد نور، فجاء الرد على النحو التالي:
أعمى.. أصم
الآن وحدك والطريق، ولا مفرّ من الألم
هذا اختيارك، فاصطبر
لا وقت عندك للندم
سرْ في الدجى، لا تنتظر
ضوءًا سيأتي من ندم
كل الخطى كانت إليك
وكلّ ما في الكون تم
إما تجازف واقفًا
أو تنحني للمُعتَمَم
فانهض، ولا تبكِ الطريق
فالجرح يزهر في القمم.
لكن… ما معنى “المُعتَمَم”؟ وكيف يمكن الانحناء له؟
وما المقصود بـ”الجرح يزهر في القمم”؟
هذه التساؤلات تبرز ما أريد قوله:
المعاني أحيانًا تبدو مصطنعة، والعبارات أقرب إلى التجميل اللفظي السطحي، لا العمق الشعري الحقيقي.
تحضرني هنا مقولة منسوبة للبروفيسور عبد الله الطيب مفادها:
“الشخص يمكنه أن يكتب الشعر إذا كان يحفظ عشرة آلاف بيت.”
ورغم أن هذا الرأي قد يبدو وكأنه يُهمّش الموهبة، إلا أنه يحمل قدرًا من الصدق، وقد انطبق تمامًا على نموذج الذكاء الاصطناعي، الذي “يحفظ”، بل و”يهضم”، آلاف المرات أكثر من عشرة آلاف بيت.
أخلُص إلى أن الذكاء الاصطناعي بات يُشكّل خطرًا حقيقيًا على الشعراء، وعلى الأدب عمومًا.
ومثله مثل بقية تقنيات العصر، سيستمر في تطوير أدواته، حتى يبلغ مرحلة قد تُوازي – وربما تتفوق – على ما يكتبه بعض الكُتاب.
وحينها، قد يُنسف ما نؤمن به حول “روح الأديب” و”موهبته” و”أحاسيسه” التي تميز نصوصه، ويصبح السؤال الأكثر إلحاحًا:
هل ما نكتبه هو ما نحن؟ أم أنه مجرّد تركيبة لغوية باتت قابلة للاستنساخ؟
Leave a Reply