“من الأعماق”.. أغنية من زمن الصفاء والذوق الرفيع

أمجد أحمد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي

حينما نتحدث عن الأغنية السودانية الكلاسيكية التي تحفر مكانها في وجدان المستمع، وتُخلّد نفسها في ذاكرة الفن، لا يمكن أن نتجاوز إبداعات الفنان صلاح مصطفى، الذي جمع بين الكلمة الرقيقة واللحن العذب والصوت المترع بالشجن.
وفي مقدمة تلك الروائع تتربّع أغنية “من الأعماق”، التي تفيض رقّةً وعاطفةً وتجلّيًا فنيًا خالصًا:

“من الأعماق يا حبيبي يا غالي
يا ساكن قلبي، يا شاغل بالي”

منذ المطلع، يضعنا الشاعر أمام مشهد وجداني مفعم بالصدق، حيث تتحدث النفس بلسان القلب، دون تكلّف أو تصنّع.
الكلمات تنبع من الأعماق فعلًا، كما يشير العنوان، وتنساب كأنها مناجاة عذبة بين عاشقٍ ومعشوقه.
صلاح مصطفى لا يكتب مجرد كلمات، بل يرسم ملامح الحنين والرجاء، مستلهمًا مفرداته من بيئة رومانسية خصبة، تعكس شغفًا صادقًا لا يعرف الزيف.

يُدهشك كيف استطاع صلاح مصطفى أن يعبّر عن الحب الصادق بكلمات بسيطة بعيدة عن التكلّف، لكنها تحمل في طيّاتها عمقًا إنسانيًا رفيعًا:

“اترجيتك لو تسمح لي بكلمة معاك
يوم لاقيتك.. أنا ما لي في الدنيا سواك”

هي كلمات تلامس القلب مباشرة، وتحمل في ثناياها خجل العاشق السوداني الأصيل، الذي يحب في صمت، ويترجّى القرب بلهفةٍ مضمّخة بالحذر والحياء.
وإن كان النص وحده قادرًا على إثارة الشجن، فإن اللحن الذي وضعه صلاح مصطفى جاء كمرآة صادقة لكلماته، ليُكمل الصورة الكاملة.

لحن الأغنية جاء متّسقًا مع أجوائها الشعورية، تنقّل بين مقاطعها بانسيابية، محافظًا على التوتر العاطفي الذي يرافق النص منذ البداية وحتى الختام.
وفي كثير من المواضع، خصوصًا عند ترديد اللازمة “من الأعماق”, يرتفع الإيقاع النفسي ويهبط ليواكب حالات القلب، متأرجحًا بين الحنين والرجاء، وبين الألم اللذيذ والفرح المنتظر.

“من الأعماق” ليست فقط عملًا فنيًا متقنًا، بل هي نموذج راقٍ لما كانت عليه الأغنية السودانية في أوج عطائها.
هي ثمرة زمن ذهبي كان الفن فيه يتقدّم بالذائقة، لا يلهث خلف الإثارة أو المجاملة.
صلاح مصطفى في هذا العمل يقدم درسًا بليغًا للأجيال الجديدة في معنى الالتزام الفني، والقدرة على صناعة الجمال من الصدق والبساطة.

ليس غريبًا أن تبقى “من الأعماق” خالدة في وجدان الجمهور، فقد وُلدت من قلبٍ صادق وضميرٍ فني نقي، وصيغت بموهبةٍ فذّة تعرف كيف تلامس المشاعر.
إنها واحدة من تلك الأغاني التي، كلّما استمعتَ إليها، شعرتَ أنها كُتبت لك وحدك، وكأنها تعبير دقيق عن لحظة حبٍ خالدة في حياتك.

في زمنٍ ضجّت فيه الساحة بضجيج الأغاني السريعة والمستهلكة، تظل “من الأعماق” شاهدة على أن الفن السوداني قادر على أن يمنح الروح صفاءها، إذا ما خرج من القلب ليستقر في القلب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.