
يوسف الغوث
#ملف_الهدف_الثقافي
“خابر عزو” كانت شايلة براد الشاي، لأن شرب الشاي عندهم نظام اجتماعي تتم فيه مناقشة ما يمكن أن يخدم الأسرة، أو يساعد في حل مشاكل أفرادها.
الشاي باللبن برادو لابس تاج
صينتو الدهب، ترقش كبابي زجاج
والسكسك المنضوم حول الجبينة نجوم
والفنجرية تقوم تقهوج الحُجّاج
طق طرق يا بن.. القهوة كيف ومزاج؟
طق طرق يا بن.. خلينا نعدل الرأس ونحصل الطرماي..
على هذا الفهم، طلبت من زوجها “جبريل” أن يجد شغلاً لابن أختها “الدلاهة”. والدلاهة، لمن لا يعرف، صفة تجعلك أقرب للعوَقة أو الهبل، وهي ـ ويا للعجب! ـ ميزة وظيفية كبرى في بلاد يُديرها “ناس زعيط ومعيط”، و”كُلّو كالي”.
رد جبريل، متهكمًا:
“ود أختك دلاهة وريالتو سايلة.. وأكتر مكان يناسب العبيط دا هو إدخاله في أحد الأحزاب السياسية، لأن خلاصة ما بتطلعه الأحزاب هم مجموعة من الدلاهات والعوقات والعييف.”
ترتشف “خابر عزو” جرعة طويلة من شاي المغرب، الذي بدا أنه عدّل مزاجها بفضل أعواد النعناع المحلي الموضوعة بعناية فوق سطح الكوب لضبط كمية الشاي “الفلت”، مع خلوه من السكر الزائد.
حينئذٍ، طلبت من “جبركا” ـ اسم الدلع لجبريل ـ أن يسدي إليها خدمة أخيرة:
أن يجد وظيفة لابن أختها “المضطرب عقليًا”.
صمت جبريل برهة، محاولًا استجماع خبرته الطويلة في السمسرة والفهلوة، ثم رد ضاحكًا ضحكة صفراء غير مكتملة:
“مكان عمل ولد أختك الأمثل هو أن يتم توظيفه في إحدى الحركات المسلحة؛ لأسباب كثيرة، أهمها أن التصرفات الطائشة التي تقوم بها تلك الحركات تشبه، إلى حدٍّ كبير، ما أصاب ولد أختك من طيش ورعونة وعدم اتزان.”
وهنا انتهى الحوار…
لكن يبقى السؤال:
هل ثمة علاقة بين “العوقات” والسياسيين في بلادنا؟
وما وجه الشبه بين الاختلال العقلي، وعدم الاتزان، وبين ما يحدث داخل الحركات المسلحة أو “كُورو كالي”؟
الإجابة عن هذا السؤال، خصوصًا في شقه المتعلق بالسياسيين، تستدعي بحثًا في نشأة وتطور العمل السياسي في السودان، وهو مبحث طويل وشاق وله أهله من المؤرخين والمختصين. لذا، سأكتفي بسرد أبرز التواريخ والمراحل، تاركًا للقارئ حرية الغوص والتأمل:
مراحل تطور القوى السياسية في السودان:
-
1910 – 1955: فترة ما قبل الاستقلال.
-
1956 – 1969: ما بعد الاستقلال حتى انقلاب نميري.
-
1969 – 1985: فترة حكم مايو وانتهائها بالانتفاضة.
-
1985 – 1989: التجربة الديمقراطية الثالثة.
-
1989 – 2019: عهد الإنقاذ، انقلاب البشير وصعود الإسلام السياسي.
-
2019 – الآن: دخول الحركات المسلحة إلى الحياة السياسية المدنية (مرحلة “جوبا مالك علي”)، وربط كثير منها بالخارج، مما أدى إلى غياب الرؤية الوطنية، وتفكك الأولويات، وظهور ما يُسمى بالعنف الطائفي المرتبط بالانتماءات الإثنية والمناطقية.
“ضُجّ يا تور قرنك شبكي، الما عندو رجال، أمّو بتبكي…”
كما يقال في تراث المعاليا، حين تختلط السلطة بالهشاشة.
وفي الختام:
يمكننا تلخيص المشهد السياسي في السودان كالآتي:
-
56 عامًا من الحكم العسكري، وهو ما يجعل السودان الدولة الأولى في إفريقيا والعالم العربي وآسيا وأوروبا من حيث عدد الانقلابات، والثانية عالميًا بعد بوليفيا.
-
19 انقلابًا ناجحًا أو فاشلاً في السودان، مقابل 23 انقلابًا في بوليفيا.
أنجبت السياسة السودانية عقولاً نيرة وشخصيات خالدة أثرت الحياة العامة، لكنها في المقابل، أنتجت أيضًا عددًا من الانتهازيين الذين خدموا الديكتاتوريات، وظهروا على مسارح السلطة كـ”أراجوزات” تتقافز على حبال المصالح.
اللهم لا تُخَولْقْنا.. ولا تُعَوْلِقْنا.
آمين.
Leave a Reply