دروب الحقيقة: قراءة في كتاب “إفريقيا… ثقافة العنف والقوة” (2)

أحمد مختار
#ملف_الهدف_الثقافي

عقد د. آدم يوسف في مؤلفه “ثقافة العنف والقوة في أنظمة الحكم الإفريقي” محاكمة أخلاقية وسياسية لظاهرة العنف المُمارَس ضد شعوب القارّة المقهورة بالاحتلال منذ القرن التاسع عشر، فقد سجلت إفريقيا أعلى معدل في مستويات العنف (74 حالة) في مسح الصراعات المسلحة الذي أُجري بين العام 1946م ـ 2006م، مقارنة بقارة آسيا (68 حالة)، والشرق الأوسط (32 حالة)، وأوروبا (32 حالة)، والأمريكيتين (26 حالة). وما زالت الصراعات والعنف تتصاعد في إفريقيا بوتائر غير مسبوقة ضمن ما عُرف بـ”حروب ما بعد الحرب الباردة”.

ويُشير الباحث، وفق دراسة فاينر للصّراعات عام 1962م، إلى أن هناك علاقة قوية بين مستوى الثقافة السياسية (متدنٍّ ـ منخفض ـ نامٍ ـ ناضج) وبين احتمال التّدخل العسكري في السياسة، وأن الدول التي تتّسم ممارساتها بمستوى ثقافة سياسية متدنٍّ، تسقط حكوماتها باستخدام العنف. وهنا يذكر د. آدم نقطة على درجة عالية من الأهمية، وهي:

“أن الحكومات العسكرية في إفريقيا لا تكترث كثيرًا بالأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وجمعيات حقوق الإنسان، ولا تلجأ للحوار معها إلا إذا أرادت أن تمرر أجنداتها من خلالها” (ص17).

عطفًا على أنها لا تستجيب لمطالب شعوبها، وهذا ما يدفع الطموحين إلى التّحدي، والمصلحين إلى الركون.

وتوقف الباحث عند الحكومات التي تحاور التمرد والحركات المسلحة التي تستخدم العنف، بعد أن يشتد ساعدها وتقوى عددًا وعتادًا، وتتحوّل المفاوضات معها بعد ذلك ـ في الغالب ـ إلى صفقات أشبه بالبيع والشراء، أو تستجيب الحكومات لمطالبهم بلا شروط أو قيود.
(كأن الباحث يقرأ ما جرى ويجري في السُّودان خلال مفاوضات اتفاقية جوبا وما بعدها، بل كل الاتفاقيات التي أُبرمت منذ العام 1972م).

ولكن نجد الباحث في منحى آخر يُسوق مبررات للعنف والقوة، بقوله:

إنه أحيانًا يصبح ضرورة حين تأتي الأنظمة عن طريق العنف السّياسي والقوة. (ص17)

وهو أمر لا يتّفق معه كثير من الباحثين والقوى السياسية المدنية، لأن العنف إذا جُوبه بالعنف يولّد عنفًا أكبر عند السّلطة، كما تقول التجارب التاريخية، ويجعلها تستخدم أدوات الدولة وأجهزتها القمعية لقهر الجماهير الحيّة. ولهذا السبب دخلت الكثير من دول القارة في دوامة العنف السياسي، ولم تستطع شعوبها الدفاع عن نفسها، بخلاف ما ذكر الباحث، واستمر القهر والحرمان والظلم والبؤس والطغيان، ولم يتحوّل العنف من حالة منبوذة إلى حالة محمودة، ولم يبق هو الحل الوحيد.

وتجربة كفاح جنوب إفريقيا ـ رغم أنها كانت تواجه الاحتلال وسياسة الفصل العنصري ـ إلا أنها تقف دليلاً على أن هناك طُرقًا أخرى لمقارعة الظلم والعنف.

ويستدرك الباحث بالقول:

“إنّ تجربة العنف في السياسة الإفريقية لم تعد خافية، وتختلف وجهات النظر حولها”،

ويتساءل:

هل هناك استخدام مباح للقوة وآخر غير مباح؟ ومتى نعدُّ ذلك جريمة؟ (ص19)

ويقرّ د. آدم بأن استخدام العنف والقوة لاستلاب حقوق الغير ـ موارد أو ممتلكات، أو السطو على موارد الدولة بسبب السلطة أو لأسباب أخرى ـ هو جريمة يجب أن يُحاسب عليها الجاني مهما كلف الأمر، وإلا انتشرت الفوضى وانفلت زمام الأمور.

ووثّق د. آدم لحالات من عنف السّلطة في إفريقيا ضد رموز ثقافية بارزة، منها:

  • الشّاعر الملاوي جاك بانجي

  • الأديب النيجيري الأشهر وول سوينكا

  • الروائي الكيني نغوجي واثيونغو (الذي رحل مؤخرًا عن الحياة)

  • وآخرين كُثر عانوا من التعذيب والسجون

ونبّه إلى أن المنصف المرزوقي، الرئيس التونسي السابق، الذي تنازل عن السلطة طوعًا، حين أشاد به الحضور في ندوة نُظمت في الخرطوم يوم 18 يناير 2017م، ردّ عليهم بأنه لم يفعل شيئًا يستحق كل هذه الحفاوة. ويؤكد الباحث:

(في الحقيقة لقد فعل ـ يقصد المرزوقي ـ ما ينبغي أن يفعله كل حاكم عاقل، لأن أساس المشكلة في إفريقيا هو عدم تنازل الحُكّام عن كراسيهم لترسيخ الديمقراطية، لذلك ينتهي أغلبهم، إما بانقلاب أو حركة مسلحة) (ص20).

وأن أساليب الحكومات الإفريقية وأدواتها التي تستخدمها باتت مكشوفة لمجتمعاتها من خلال التجارب والاستغلال السيئ لإدارة الموارد والفساد، حتى غدت الدول الإفريقية الأكثر فسادًا على قائمة مؤشر الفساد الدولي منذ العام 2007م، وهي مُدرجة منذ العام 1990م على مؤشر تدني التنمية البشرية، مما يُثبت الصلة بين الفساد وسوء الحكم والتّخلف، حيث تتوارث الأنظمة الحكم على شاكلة واحدة، بينما تعيش الشعوب الإفريقية نمطًا واحدًا من الفقر، والإفقار، والأزمات، والحروب الأهلية، نتيجة احتكار النشاط السياسي، وإخضاع مؤسسات الدولة الرسمية لمصالح الحاكم وورثته.

فأصبحت بذلك إفريقيا أضعف قارات العالم، رغم مواردها البشرية وثرواتها المتنوعة، لأن السلطة تقوم على المحاباة، والقبليات، والموازنات بين المجموعات الإثنية المتوازنة القوة.

وتبقى الدولة تحت تصرف فئة محدّدة تسيطر على كل شيء، وتعمل دون أدنى اهتمام بالقانون والدستور، وتصبح خزائن الدولة تحت تصرفها، وتتحول المؤسسات إلى منظمات إرهابية، والإعلام إلى أبواق، وتؤول منظمات المجتمع المدني والهيئات النقابية والمهنية والاتحادات الثقافية والاجتماعية إلى أيادي أفراد يحولونها إلى مؤسسات ربحية تُكرّس للفساد (ص22).

ويبقى المواطن مقهورًا، ومذلولًا، ومشلولًا، غير قادر على الإنتاج والابتكار والإبداع، يعمل وفق برمجة الحاكم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.