
ياسر عوض علي
#ملف_الهدف_الثقافي
هل هذه هي الرواية الأولى لعزمي علي بلة؟ أم هي الأولى ضمن سلسلة مترابطة من الروايات؟
إذا كانت روايته الأولى، فقد كتبها بثقة لافتة، ممسكًا بأدواته السردية، ومحلّقًا بها في فضاءات المكان واللغة. وإن كانت أولى حلقات سلسلة روائية، فقد نجح في التأسيس لفضاء سردي قابل للامتداد، وهو ما سنوضحه لاحقًا.
لا تستطيع رواية أن تخدع عناصرها أو تلتفّ على نسقها الداخلي، وإلا خرجت من السياق الجمالي الذي يحكم العملية الإبداعية.
رواية “عودة الغزالة” تؤسّس منذ العنوان لفعلٍ ثانٍ يسبقه فعل أول غائب؛ فـ”العودة” لا تتم إلا عن غياب. وهنا يُهيّأ المتلقي نفسيًا لاسترجاع أسباب الغياب، فتبدأ عملية البناء السردي بالاستناد إلى التذكّر والرجوع إلى الماضي، مما يُحكم البنية الإجرائية للنص.
“الغزالة” ليست مجرّد كائن بيولوجي في هذا السياق، بل هي دالّة ثقافية مشبعة بالرمزية. فهي كائن مرتبط بالعلو والكبرياء، لا يعرف الانحناء، ورمز للجمال في التكوين والزخرفة الجسدية. في الثقافة الشعبية السودانية، يُشار إلى الغزالة باعتبارها مخلوقًا “ركوب الجن”، في إشارة إلى المراوغة وسرعة الهروب.
كل هذه المعاني تعزّز من ثقل “العودة” بوصفها حدثًا استثنائيًا.
قبل الدخول في النص، يُحيلك العنوان إلى دلالات ثقافية وشاعرية عميقة، ويُعمّق هذا الإيحاء البيت الشعري المدوّن أسفل العنوان:
يا ليته يعلم إني لست أذكره
وكيف أذكره إذ لست أنساه؟
وهو بيتٌ شجيّ ينسبه البعض للمتنبي، وآخرون لعلي بن الجهم. غير أن ما يعنينا هنا هو المعنى لا القائل، خاصة في علاقته بالعنوان. ويمكن أيضًا ربطه بتناص عاطفي آخر مع بيت نزار قباني:
ماذا أقول له لو جاء يسألني
إن كنت أكرهه أم كنت أهواه؟
بهذا، يصبح العنوان كاشفًا ومُضمرًا في آنٍ واحد، يحمل في ثناياه العاشق والمحبوبة، المفقود والعائد، الغياب والحضور، ويترك للمتلقي مهمة اكتشاف الإجابة بين دفتي الرواية.
تدور أحداث الرواية في مدينة الدندر جنوب الخرطوم، التي تحتضن محمية طبيعية من أبرز وجهات السياحة البيئية في السودان. المدينة، بتنوعها القبلي والثقافي، تشكل خلفية خصبة للاشتباك السردي، حيث يلتقي العرب (رفاعة، الحمدة، الحلاوين، الكواهلة…) بغير العرب (الفلاتة، الهوسا، النوبة، البرقو…) في نسيج اجتماعي معقّد ومنسجم في آن. هذا المشهد المتعدد يلائم المسرح السردي الذي اختاره الروائي، حيث تصبح “عودة الغزالة” رمزية لعودة الكائن إلى موطنه، والهوية إلى جذرها الأول.
أما الزمن في الرواية، فيتشكل من أربعة مستويات متداخلة:
-
الماضي: يسترجَع كدافع جوهري للعودة، ويرتبط بتحولات اجتماعية وسياسية.
-
الحاضر: يستقبل فعل العودة بوصفه لحظة محورية.
-
النفسي: يُكشَف من خلاله تضاد الشخصيات وصراعاتها الداخلية.
-
زمن السرد: وهو الإطار الأدبي الذي تتحرك فيه الأحداث وتتبدل فيه وجهات النظر.
الرواية تُقدّم الماضي دون أن تنجرّ إلى الشعاراتية أو الأدلجة، مما يمنحها طابع الوثيقة السردية المحايدة، ويجعلها قادرة على الحفر في الذاكرة الجمعية دون أن تتورط في خطاب مباشر.
تمّ بناء الشخصيتين المحوريتين، صابر والغزالة، بناءً ثقافيًا عميقًا.
“صابر”، المزارع المثقف ودليل السياح، يجمع بين مهنتين مركزيتين في مدينة الدندر، ما يمنحه فهماً دقيقًا للزمان والمكان. رمزية “الزجاجات الفارغة” التي تلازمه، تُشير إلى التوثيق العاطفي والتعلّق بالذكريات.
أما “الغزالة”، فهي امرأة فرنسية، تمثّل حضارة العالم الأول، لكنها أسيرة الجغرافيا الشرقية. معلمة تُدرك التفاوت بين عالمين متناقضين، وتُشكّل بعودتها مفارقة الاغتراب والانتماء.
الشخصيات الثانوية تؤدي أدوارًا مكمّلة، لكنها تظل مفتوحة النهايات، مما يُمهّد لاحتمال ولادة روايات لاحقة تكون “عودة الغزالة” مفتتحًا لها.
اعتمد الروائي على راوٍ بضمير المتكلم، مع تحوّلات سلسة أحيانًا إلى الراوي العليم. هذه الانتقالات لم تُربك القارئ، بل كشفت عن العمق النفسي لصابر، وعن الصراع الداخلي الذي يتماهى مع اسمه: صابر.
اللغة جاءت سلسة، خالية من الزخرفة، تفضّل التجريد وتقلّل من المحسنات، دون أن تفقد شعريتها أو دلالتها. اعتمدت الرواية أيضًا على الحوارات القصيرة والمركّزة، التي سهّلت التفاعل مع النص وبنت واقعًا روائيًا ملموسًا.
الجملة الافتتاحية: “السمسم حكم يا صابر” تحمل طيفًا من الإيحاءات: الزمان، المكان، الشخصية، الثروة، والحياة الريفية. أما أطول حوار في الرواية، فقد جاء في المطار بين ضابط الجوازات والسائحة الفرنسية، حيث تُطرح أسئلة العودة، والاحتمال، والماضي:
كم تنوين البقاء في رحلتك السياحية؟
في الحقيقة، إجازتي أسبوعان، لكني لا أعلم إن كنت سأقضيها كلها في السودان أم أعود سريعًا.
هل سبق لك زيارة السودان؟
نعم، قبل أكثر من عشرين سنة…
هذا الحوار يختزل التوتر الدرامي في الرواية: الغياب، الصراع، الحنين، والاحتمال.
اعتمد النص على تقنية الثنائيات الضدية (Binary Oppositions):
البقاء/السفر، الإفصاح/الكتمان، الحياة/الموت، الثقافة/الطبيعة، الحب/الزواج، التعدد/الإفراد…
وهو ما منح الرواية عمقًا بنيويًا واضحًا، وجعل التلقي مشدودًا نحو النهاية.
في المجمل، “عودة الغزالة” هي رواية أولى واعدة لعزمي علي بلة، تستلهم مادتها من الواقع والتاريخ والثقافة، وتطرح أسئلتها الجمالية والوجودية في فضاء يحتمل التعدد والاختلاف، ويفتح أفقًا سرديًا جديدًا في الرواية السودانية المعاصرة.
إنها انطلاقة واثقة لكاتب يمسك بأدواته، ويرسم ملامح مشروعه السردي بثبات.
Leave a Reply