من التأمل إلى الاستراتيجية: في أفق استئناف المشروع القومي العربي النهضوي

بقلم: أ‌. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة

في لحظةٍ تاريخية تتنازعها الفوضى والاغتراب، ويتهددها التفكك المعرفي والاستلاب السيادي، تغدو العودة إلى (المشروع القومي العربي) ليست فقط واجبًا فكريًا أو انتماءً وجدانيًا، بل ضرورة حضارية تستدعي مراجعة جذرية لأدواتنا التحليلية ومفاهيمنا التأسيسية. إنّ ما نواجهه اليوم لم يعد مجرد تراجع في الأداء السياسي أو ضعف في التنسيق بين الاقطار العربية، بل أزمة وجودية تمس بنية المعنى، وتشكك في جدوى التصورات الكبرى، وفي مقدّمتها المشروع القومي نفسه.

من هنا تنبع أهمية هذا الملف الذي نقترحه بعنوان (من التأمل إلى الاستراتيجية: في أفق استئناف المشروع القومي العربي)، بوصفه محاولةً فكرية مزدوجة تقف على الحدّ الفاصل بين الرؤية والتخطيط، بين الفكرة والوظيفة، بين (مرافعة العقل القومي) و(خرائط الفعل الممكن).

في الجزء الأول، نقترب من محاضرة المفكر القومي الأستاذ الدكتور يوسف مكي، بوصفها لحظة تأملٍ معرفي واستبطان تاريخي عميق للمأزق القومي. تلك المحاضرة تمثّل صوتًا رصينًا وضميرًا حيًّا ينادي بإعادة تعريف المشروع النهضوي القومي خارج الأطر النمطية، في ضوء تحولات الداخل العربي وتغيرات النظام الدولي، مسلطًا الضوء على المفارقة بين وفرة الأحلام وضآلة الإنجاز، بين بلاغة الشعار وخفوت الفعل.

وفي الجزء الثاني، نغادر مربع التأمل إلى فضاء التخطيط والرؤية العملية، من خلال مقاربة استراتيجية تقترح (عشر أولويات لميلاد متجدد للفكرة القومية). لا تدّعي هذه المقاربة امتلاك الوصفة النهائية، لكنها تسعى إلى تحويل المرافعة إلى خريطة، والانفعال إلى بناء، والنوايا إلى مؤسسات. وهي تستند إلى فهمٍ مركب للعالم المعاصر، حيث تتقاطع الهويات مع التكنولوجيا، والثقافة مع الأمن، والاقتصاد مع السيادة الرقمية.

إننا لا نعيد هنا فقط قراءة المشروع النهضوي القومي، بل نعيد تأطيره ضمن مفهوم (الكتلة التاريخية القومية العريضة للديمقراطية والتغيير) – تلك التي لا تُختزل في حزب أو نخبة أو جهاز، بل تتشكل من تحالفات متعددة المستويات: نقابات ومثقفين، جامعات ومنصات، قوى الشباب والمرأة، والشتات العربي… الخ، تحالف لا ينشد الهيمنة بل التوازن، ولا يسعى إلى الإقصاء بل إلى استعادة المعنى.

هكذا يكتمل المعنى: من استدعاء الذاكرة إلى تحرير المستقبل، ومن الرؤية المجردة إلى العقلانية الاستراتيجية، ومن الانكفاء إلى المبادرة الحضارية. فهل يكون هذا الملف لبنة في (الميلاد المتجدد) الذي ينتظره الجميع؟

الجزء الأول: مرافعة العقل القومي – قراءة في محاضرة المفكر القومي الأستاذ الدكتور يوسف مكي

في محاضرة فريدة جمعت بين نفَس التأمل الفلسفي والدقة التحليلية للواقع العربي، قدّم الأستاذ الدكتور يوسف مكي في منتدى شومان بالعاصمة الأردنية، مرافعة فكرية رفيعة حول مأزق المشروع القومي العربي وإمكاناته المتبقية في زمن التحولات الكبرى. لم تكن المحاضرة عرضًا تأريخيًا أو استعراضًا تقليديًا لأطروحات سبق تداولها، بل كانت محاولة جادة لإعادة تشكيل الوعي القومي في ضوء السياقات الكونية الجديدة، حيث تتزاحم الأقطاب، وتتآكل الحدود، وتتفتت الاقطار من الداخل، ويتحول المواطن إلى كائن سياسي مأزوم، تتجاذبه الهويات الفرعية والولاءات العارضة، في غياب (معنى جامع).

ما فعله الأستاذ الدكتور مكي هو نوع من (التنقيب الفكري) في أطلال الحلم القومي، ليس من أجل النحيب، بل لإعادة ترتيب موقع الفكرة القومية ضمن حركة التاريخ وضرورات المستقبل. لقد تجاوز التحليل الشعارات المعتادة، وتعمّق في البنية التحتية للعجز العربي(حكومات ، وسياسيين، ومتخصصين ، وقادة رأي….. الخ) : غياب الرؤية التكاملية، انكفاء الدولة القُطرية على أزماتها، اقتصادات جزيرية لا رابط بينها سوى تنافسها على السوق والولاء الخارجي، والافتقار إلى عقد اجتماعي يستند إلى المواطنة لا إلى الاستتباع.

إن واحدة من أهم أفكار المحاضرة – في تقديري – هي إعادة توطين المشروع القومي في الجغرافيا لا في اللغة وحدها. هذه النقلة الفلسفية تعني أننا لسنا معنيين بالانحباس في تعريفات عرقية أو ثقافية ضيقة، بل بما يجعل من المجال العربي فضاءً موضوعيًا للمشاركة التاريخية والاقتصادية والسياسية. فكما فعلت الصين والهند والبرازيل، يجب أن ننتقل من (هوية اللغة) إلى (هوية المصير) و(جغرافية الوعي)، ومن وهم التماثل الكامل إلى واقع التنوع المنتج. هذا ما يجعل المشروع القومي لا نداءً عاطفيًا، بل خيارًا عقلانيًا للبقاء، في عالم لا يعترف إلا بالتكتلات الصلبة.

المحاضرة، إذ تفتح النقاش حول العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطنة، تحثّ على إعادة صياغة (العقد الوطني) في كل قُطر عربي، بوصفه المدخل الوحيد نحو الكتلة التاريخية القومية. لقد رفضت الطرح الذي يُحمّل الفقر وحده مسؤولية الغضب الشعبي، مؤكدة أن الثورة هي فعل وعي ومشاركة وشعور بجدوى التضحية. هذه الإشارة الدقيقة تذكّرنا بأن التحولات لا تصنعها الأزمات وحدها، بل الحاجة إلى أفق بديل، وإرادة واعية، وقادة يملكون خيالًا استراتيجيًا يتجاوز اللحظة.

ما يميز هذه المحاضرة ليس فقط غناها النظري وعمقها النقدي، بل قدرتها على خلق شبكة تفكير متكاملة تربط الاقتصاد بالثقافة، والجغرافيا بالهوية، والماضي بالحاضر. وقد بدا واضحًا أن الأستاذ الدكتور مكي لا يدعو إلى مشروع (قومي نقيضًا للدولة)، بل إلى مشروع قومي نهضوي تحرري  ينهض من داخل الدولة – شرط أن تتحول الدولة إلى أداة تمكين للمجتمع، لا آلة لإعادة إنتاج الاستبداد أو التبعية.

في زمن السقوط الحر للعديد من الاقطار العربية في حروب الوكالة، وانكشاف نخبها أمام اختبار السيادة، لا تبدو دعوة الأستاذ الدكتور مكي إلى (تحالف متعدد المستويات) ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. من هنا، فإنّ مشروعًا عربيًا متجددًا لا يمكن أن يُبنى على مجرد تكرار شعارات الوحدة (فحسب) أو إعادة بثّ الصور القديمة (فحسب)، بل على اجتهاد فكري ومؤسسي يعيد تعريف الغاية القومية بما ينسجم مع شروط العصر: تنمية مستقلة، وديمقراطية تداولية، وعدالة اجتماعية تربط الإنسان بأرضه وتاريخه ومستقبله.

المحاضرة بهذا المعنى دعوة مفتوحة، وليست خطابًا مغلقًا؛ تمهيدٌ لحوار جاد بين المفكرين والسياسيين والمثقفين حول المشروع القومي، وما يمكن أن يُبنى عليه. وإذا كان الدكتور مكي قد أنهى محاضرته بنبرة تحذيرية عن مصير التفكك، فإنّ المسؤولية الآن تقع على عاتق الأجيال الجديدة، في أن تعيد كتابة النص القومي لا كماضٍ يُحنُّ إليه، بل كأفق نضال يُعاد تأسيسه على أرضية الوعي العميق، والممارسة المنظمة، والانتماء المنتج.

إن محاضرة بهذا المستوى لا ينبغي أن تُقرأ مرة واحدة، بل تُناقش، تُفكك، وتُستعاد ضمن ورشات تفكير جماعي، تسهم في تحويل الحلم القومي إلى أداة لفهم الواقع وتغييره، لا للتغني عليه. ولهذا فإنها، رغم كل ما فيها من تشخيص دقيق، لم تكن نعيًا، بل محاولة نهوض أخرى، (قبل أن يغلق التاريخ نافذته).

الجزء الثاني: مقاربة استراتيجية – (عشر أولويات لميلاد متجدد للفكرة القومية)

في لحظة التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم والمنطقة، تعود الحاجة مُلحّة إلى استئناف المشروع القومي العربي لا بوصفه خطابًا عاطفيًا أو ردّ فعل تاريخي، بل باعتباره رؤية حضارية متجددة تؤسس لعقد اجتماعي جديد، يدمج بين متطلبات العصر وروح الأمة، بين الهوية والحداثة، بين الكرامة السياسية والتكامل التنموي. هذا الاستئناف لا يكون بمجرد استحضار الشعارات (فحسب)، بل بفتح أفق فكري استراتيجي يتجاوز التجزئة ويعيد صياغة الموقف العربي من التاريخ والمستقبل، من خلال مقاربة شاملة تشمل البعد الحضاري، والتكنولوجي، والبيئي، والقانوني، والثقافي. وكما يلي:

أولًا: البعد الحضاري المتجدد – (من الهوية إلى النهضة): لم تعد (الهوية القومية) كافية بوصفها ردّ فعل ضد التغريب أو أداة لمقاومة الهيمنة فحسب، بل ينبغي أن تتحول إلى نظام قيمي مفتوح يعيد بناء الذات العربية في مواجهة التفكك الثقافي والانكفاء القُطري. إن المشروع القومي في القرن الحادي والعشرين هو مشروع نهضوي حضاري، يعيد استثمار التراث لا بوصفه مقدّسًا ساكنًا، بل كطاقة حية في إنتاج نموذج تنموي خاص بنا، نابع من ذاكرتنا ومتجه إلى المستقبل.

ثانيًا: التحديات التكنولوجية – (من التبعية إلى الريادة): ان الثورة الصناعية الرابعة أعادت تعريف مفهوم (السيادة)، حيث لم تعد الحدود الجغرافية وحدها ضمانًا للأمن القومي، بل صارت الفجوة الرقمية، وضعف البحث العلمي، وتبعية النظم التقنية من أبرز مصادر الهشاشة. من هنا تبرز ضرورة إنشاء (اتحاد عربي للبحث العلمي والتطوير)، لتوطين التكنولوجيا واستعادة المبادرة المعرفية.

ثالثًا: الأمن المائي والغذائي – (من الندرة إلى التكامل): ان تشكل الممرات المائية (كالنيل، دجلة والفرات، والمضائق البحرية، والبحار والخلجان) مفاصل أمن قومي عربي مشترك، وكذلك الأمن الغذائي الذي صار تحديًا استراتيجيًا في ظل الحروب والصراعات وسلاسل التوريد العالمية. إن إنشاء مشروع تكاملي للأمن الغذائي ورسم خريطة عربية للموارد الزراعية والمائية يُعدّ ضرورة لا رفاهية.

رابعًا: الشباب والتحول الرقمي – (من الحضور الرقمي إلى الفضاء العربي الموحد): جيل الألفية والجيل الرقمي يعيش خارج أطر الدولة التقليدية، ويتشكل وعيه القومي عبر المنصات الرقمية. وهذا يمثل فرصة تاريخية لصياغة وعي عربي جديد يدمج الحداثة مع الرسالة القومية. ويمكن ذلك من خلال بناء فضاء رقمي عربي موحد يربط بين المبادرات الشبابية، وقنوات الإعلام الجديد، والمؤسسات القومية.

خامسًا: المقاربة القانونية الدولية – (من التشتت إلى الفاعلية المؤسسية): في عالم تتزايد فيه التكتلات، يجب استلهام التجارب الناجحة كالاتحاد الأوروبي والآسيان لتشكيل أدوات قانونية عربية تخدم المصالح المشتركة، من بينها مشروع (محكمة عربية للاستثمار)، وآليات لحماية الحقوق القومية في المحافل الدولية.

سادسًا: الأبعاد الثقافية – (من التلقي إلى الإنتاج): الرهان على الثقافة لم يعد رفاهية، بل صار ضرورة استراتيجية. نحن نواجه (عولمة ناعمة) تفرغ الشخصية العربية من مضامينها التاريخية والقيمية. لذلك، لا بد من مشروع لصناعة المحتوى الثقافي، يعيد تأهيل الذاكرة الجمعية، ويستثمر الفنون كأداة وعي قومي جماهيري.

سابعًا: الاستراتيجية الإعلامية – (من الدفاع إلى المبادرة): الفضاء الإعلامي المعاصر هو فضاء السرديات والهيمنة الرمزية. ومن لا يملك روايته، يُروى عنه. هنا تصبح الحاجة ماسّة إلى تأسيس (وكالة أنباء عربية موحدة)، وتطوير استراتيجية اتصال رقمي تستهدف الرأي العام العالمي والعربي بوسائل معاصرة.

ثامنًا: الجيوبوليتيك الجديد – (من الانكفاء إلى الانخراط الفاعل): مؤشرات تحول العالم إلى نظام تعددي قطبي، وتغير موازين الجيوبوليتيك. على الأقطار العربية أن يعيدوا رسم خريطتهم الاستراتيجية، من خلال تحليل أثر الممرات الدولية، وتطوير سياسة تحالفات مرنة، دون الارتهان لأي قطب بشكل أعمى.

تاسعًا: الاقتصاد الأخضر – (من التبعية النفطية إلى التنوع المستدام): الفرصة التاريخية أمام الشعب العربي (الاقطار العربية) هي في التحول إلى الاقتصاد الأخضر، عبر مشاريع طاقة شمسية ورياح وهيدروجين أخضر، مما يعزز من التكامل الاقتصادي ويقلل من الاعتماد على النفط الأحفوري. ويستوجب ذلك مشروعًا عربيًا للتحول البيئي المشترك.

عاشرًا: الأمن السيبراني – (من الانكشاف إلى الحماية الرقمية الجماعية): مع تزايد الهجمات السيبرانية والتهديدات الرقمية، بات الأمن السيبراني ركيزة في الدفاع القومي. والحل لا يكون فرديًا، بل من خلال مشروع (الدرع السيبراني العربي) وتوحيد التشريعات الرقمية.

خاتمة: من الفكرة إلى الفعل… نحو نهوض لا يؤجل

المشروع القومي العربي اليوم ليس خياراً بين الماضي والمستقبل، بل هو جسر عبور منه إليه. يتطلب هذا الجسر دعائم صلبة من الإرادة السياسية، والوعي المجتمعي، والرؤية الاستراتيجية. الأمة التي تستطيع أن تجعل من تنوعها قوة، ومن تحدياتها فرصاً، ومن ماضيها حافزاً لا عبئاً، هي الأمة القادرة على صناعة مكانها في عالم الغد. ليس الوقت وقت مراثي أو شعارات، بل وقت خطط عمل وجسور تواصل ومشاريع تكامل. السؤال ليس: هل ما زال المشروع القومي ممكناً؟ بل هو: كيف نجعله حقيقة واقعة في زمن التحولات الكبرى؟.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.