ملهمات من تاريخ بلادي

بقلم: د.منال جمبلان

لطالما كانت المرأة السودانية، وعبر تاريخ السودان الطويل، رمزًا للقوة والإرادة والحكمة. لم يمنعها دورها الفطري كزوجة وأم حاضنة لمملكتها الصغيرة من أداء واجبها الوطني ومقاومة كل غزو واستعمار كلما تطلبت المرحلة ذلك. لقد سطر تاريخ السودان أسماء نساء قدن وسدن، وقاتلن الجيوش الغازية والمستعمرة بكل قوة وصلابة، وعزة وشموخ. سعين للحفاظ على تراب بلادهن واستقلال شعبهن، فخُلِّدت أسماؤهن بحروف من الكبرياء والقيادة والريادة، حتى صرن أنموذجًا لنضال المرأة السودانية.

تهدف سلسلة “ملهمات من بلادي” إلى تسليط الضوء على دور هؤلاء النساء اللواتي ألهمن الأجيال اللاحقة معاني البذل والتضحية والنضال والبطولة، وكيف يمكن للمرأة أن تكون في طليعة شعبها.

عازة في هواك (1)

كم من عازة سينجب السودان!

عازة محمد عبد الله هي زوجة القائد علي عبد اللطيف، رئيس جمعية اللواء الأبيض وقائد ثورة 1924 ضد الاستعمار الإنجليزي للسودان.

ترعرعت عازة في مدينة بُري وتزوجت من الضابط علي عبد اللطيف عام 1921، واستقرت معه في مدينة تلودي بجبال النوبة. تنقلت مع زوجها في جميع المدن التي عمل بها، منها مدني، الفاشر، ورمبيك، واستقرت الأسرة أخيرًا في المنطقة المعروفة بالفتيحاب الآن في أم درمان.

قاد زوجها علي عبد اللطيف، مؤسس حركة اللواء الأبيض، النضال ضد الاستعمار الإنجليزي، وتم حبسه في سجن كوبر بمدينة بحري. كانت عازة تزوره في السجن بصحبة ابنتيهما نعمات وستنا (الابنة الصغرى). كانت حلقة الوصل لإيصال الرسائل لثوار حركة اللواء الأبيض، حيث كانت تحمل الرسائل مخبأة في “مريلة” الطفلة الصغيرة لتوصيلها للثوار خارج السجن.

خطط طلاب الكلية الحربية للخروج في حشد عسكري سلمي للمطالبة بالإفراج عن زملائهم. تحرك الموكب صوب منزل البطل علي عبد اللطيف، شمال كلية الصحة بجامعة الخرطوم، مرورًا بالثكنات العسكرية وخط السكة الحديد. عند وصولهم المنزل، خرجت لهم الحاجة فاطمة محمد الحسن، والدة السيدة عازة، وأطلقت زغرودة حين أدى الطلبة الحربيون التحية العسكرية لأسرة علي عبد اللطيف. خرجت السيدة عازة أمامهن، وقادت الموكب العسكري كأول سيدة في تاريخ السودان تقود مظاهرة سلمية مناهضة للاستعمار في أغسطس 1924. سارت أمام الموكب حتى سجن كوبر بمدينة بحري حيث كان زوجها معتقلاً، ومن خلفها ردد المتظاهرون القصيدة الأشهر للشاعر عبيد عبد النور:

“يا أم ضفاير قودي الرّسن

وأهتفي فليحيا الوطن

أصلو موتاً فوق الرّقاب

كان رصاص أو كان بالحراب

البدور عند الله الثواب

البضحي وياخد العقاب

يا الشباب الناهض صباح

ودّع أهلك وأمشي الكفاح

قوي زندك وموت بارتياح

فوق ضريحك تبكي الملاح”

لم تخف عازة عند اعتقال زوجها، بل خاطبت بكل قوة ملك مصر آنذاك، الملك فاروق الأول برسالة مطالبة إياه بالإفراج عن زوجها المعتقل، وبعثت بذات الرسالة إلى وزير الحربية. انتقلت هي وأسرتها إلى مصر لتكون بالقرب منه.

على الرغم من أنها لم تنل حظًا من التعليم، إلا أن السيدة عازة ساندت ثوار جمعية اللواء الأبيض، التي كانت تدعو إلى تعليم المرأة. كان شاعر الثورة، خليل فرح، رفيق درب زوجها علي عبد اللطيف في جمعية اللواء الأبيض. نشرت الجمعية الدعوة لتعليم المرأة في جريدة الحضارة، حيث كتب خليل فرح في عددها الصادر بتاريخ 27 يناير 1921 قصيدته عن تعليم المرأة.

كانت السيدة عازة وأسرتها هدفًا لأجهزة الاستعمار، في محاولة لكسر شوكتها ووأد نضال المرأة السودانية الذي بدأت تتشكل نواته الأولى. مورست عليها وعلى أسرتها كل أساليب الترويع والتهديد، وتعرضت للضرب والتفتيش في محاولة يائسة لإثنائها عن ممارسة النشاط السياسي. حُرمت من معاش زوجها وقُطعت عنها خدمة المياه والكهرباء، ولكن كل ذلك لم يثنها عن دورها القيادي والملهم. بل دفعها حسها الوطني للقيام بدور طليعي والمشاركة في أكبر حراك نقابي قاده النقابي العمالي سليمان موسى في مارس 1948 للاعتراف بنقابة عمال السكة حديد، التي كان أول رئيس لها. شاركت السيدة عازة إيمانًا منها بأن الحراك النقابي كان أداة من أدوات النضال ضد المستعمر. وفي تفكيرها هذا، ورغم أميتها، جسدت معاني البطولة وسبقت من هن في مثل سنها في الاضطلاع بالمسؤولية الوطنية وفي طليعة مقاومة الاستعمار.

كرمها اللواء محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وأقام حفل تأبين لزوجها البطل علي عبد اللطيف، وأمر بنقل جثمانه من المقابر العامة إلى مقابر الشهداء، وخصص لها معاشًا شهريًا حتى وقت وفاتها في عام 1987. كما كرمها الرئيس المخلوع الأسبق جعفر نميري واتحاد عمال نقابات السودان في عام 1969، واتحاد طلاب جامعة الخرطوم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.