قرآءة في دفاتر الشاعر الحاج محمد سر الختم

صحيفة الهدف

أحمد عبيد الله

من الصعب الكتابة عن شاعر مثل شاعرنا الحاج محمد سر الختم، موضوع قراءتنا، لأسباب كثيرة في مقدمتها أن شاعرنا لم يأخذ حظه من الإعلام، ولم يسلط الضوء على رصين شعره، الذي تغني به عدد من فناني الشمال، وقد جهل الكثيرون حتى مهمة البحث عن كاتب هذه القصائد، وذلك يعود لأسباب تتعلق بالشاعر نفسه، وابتعاده عن الإعلام. أو ربما للبيئة، التي عاش فيها شاعرنا، التي تتصل بجذور فلسفة العرب في إخفاء الغزل في المحبوبة، فكم من عاشق بكى دمًا وشعرًا في محبوبته، لكن ذلك كان سببًا في رفضه من المجتمع بحكم التقاليد والعادات.
هذه المقدمة تصلح لزمان قبل أن تصيب مجتمعنا هزة اقتصادية ونقلة إعلامية كبيرة، جعلت من الإبداع سببًا لمكاسب مادية وريع يقتنى مما يكتبوه، وضمن هذا الجو ساد ساقط القول، ركيك العبارة، وانحدرت ثقافة المتلقي والمتذوق..
ضمن هذا الهرج لم يجد شاعرنا حظه، أو بالأصح أنه لم يلهث خلف اقتناص فرصة الظهور، خاصة وأنه يمتلك من الملكات الشعرية الفطرية ما يؤهله لخوض غمار هذه التجارب، ودخول معتركات الإعلام، لكنه انزوى بنفسه عن هذا السوق البوار، وهي تقديرات ذاتيه اجتماعية وسياسية تعود له..
ونعود وننقب، من هو الحاج محمد سر الختم؟
أو من يطلق عليه مجازًا (الحاج وفا) وهي رمزية معشوقته، التي تغنى بها وافتتن بحبها؟، تقول بطاقة الحاج أنه مهنته معلم بمراحل الأساس، وهو من قدامي خريجي معهد التربية، ولكنه ابتعد عن مهنة التدريس ليمارس الزراعة في مسقط رأسه بالشمال منطقة فتنة. وقد نظم أوائل قصائده في ملهمته وفا، سواء، إن كان هذا الاسم يدل على شخص بعينه أم أنه رمزية لها دلالاتها في نفسه، فخاطبها مستغربًا:
يا وفا ليش بتردي الموية.. ياخي حرام عليك تشيلي
ورود الماء كانت عادة قديمة في المنطقة، وهي كلمة عربية فصحى، تعني النزول إلى موقع الماء، وقد كانت فرصة يقتنصها كل عاشق ليرى معشوقته، لكن استفهام شاعرنا لم يكن في رؤيتها، بل في استهجانه لحملها الوعاء للماء لأنه أكبر وأثقل من قدرتها.. إضافة إلى أن فكرة خروجها عنده أصلًا مرفوضهة خوفًا من العين.
ما برضاكي تمرقي بره.. بعض الناس نفوسا رزيلي..
هذه النفوس المتربصة، التي تنتظر خروجها هي ما يخافه شاعرنا.. وهنا تتجلى إشكالية أخرى، كيف سيراها إن لم تخرج، كما أن مقتضيات الحياة في الريف تتطلب أو تفرض الخروج المحدود والمعروف وجهة وكنهًا، وهي سياقات حياة ألفها الناس.. الورود للموية، حش القش، جمع الحطب، وتوصيل الأكل للمزارعين، هذه الأعمال تتم ضمن سياق الحياة العادية للفرد، وبتنسيق مجتمعي معروف.
في أحد بيوت الشعرية في قصيدة وفا يقول الحاج:
جاتني أمس العشية بلومة.. تبكي من الزعل تشكي لي
هنا لمحة فنية غريبة.. تخيل أن طائرًا جميلًا كالبلوم يشكو، وسبب الشكوى أن هذه الـ(وفا) قد شالت كل جمال هذه الطيور واكتنزتها لنفسها، ولم تترك للآخرين إلا الفتات، ومنهم هذه البلومة والمعروفة بجمالها..
لم ترد مخاطبات ثنائية بين الإنس وغيره من مخلوقات الله إلا للأنبياء، وقد تكون كرامات لأهل التصوف، لكن شاعرنا أبدع في التوصيف رغم أن القضية محسومة سلفًا، فهي قسمة ربانية.. أخذت (وفا) بالشوال، واختارت وكالت وبالتأكيد فإن صاحب المكيال مستوفيًا..
هناك رموز كثيرة في قصائد شاعرنا الحاج، أسماء أخرى غير شخصيته المحورية وفا، مما يعجل الاقتراب من حقيقة أن وفا نفسها شخصية افتراضية في مخيلة الشاعر، لأن تعدد الأسماء يعني أن القلب تشتت، وأن الطرق تعددت، أو كما وصف الحالة الشاعر علاء الدين أبو سير: قلبك قبلة للضالين..
فلا ينسجم ورود وتوصيف هذه الشخصيات مع التركيز على شخصية محورية وهي شخصية وملهمة شاعرنا.
يمكن نبويب قصائد شاعرنا في ثلاث محاور: الإعجاب والانبهار.. وتوصيف محبوبته، ثم الصدمة والصدود وتداعياتها، وأخيرًا مرحلة الوداع والبكاء على الأطلال، حد تقديس الأرض التي مشت عليها، وتجريم من سعى في تهجيرها..
ضمن هذه السياقات الثلاث يمكن أن نصنف قصائد شاعرنا، وأن نضع كل قصيدة تحت عنوانها المناسب..
سأعود بشيء من التفصيل لاحقًا..

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.